امبارح قررت محكمة جنايات القاهرة قبول طلب التحفظ على أموال وممتلكات عدد من أبرز الشخصيات والمنظمات الحقوقية في مصر، وهم:
١- مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، ومؤسسه بهي الدين حسن.
٢- جمال عيد ، مؤسس الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان.
3- حسام بهجت ، مؤسس – المبادرة المصرية للحقوق الشخصية
4- مركز هشام مبارك للقانون، ومديره مصطفى الحسن
٥- المركز المصري للحق في التعليم، ومديره عبدالحفيظ طايل
القضية دي هي المعروفة إعلامياً باسم “قضية التمويل الأجنبي”، أو القضية ١٧٣ لسنة ٢٠١١ .. للأسف بنسمع كتير اتهامات وهجوم بيوصل لوصم أي حد بيشتغل في العمل المدني بأنه عميل وخاين!
خلينا نعرف القصة من البداية خالص، ونستعرض فيها الكلام الرسمي من واقع الأوراق الحكومية نفسها …
*****
يعني إيه منظمات مجتمع مدني؟
– كيانات غير هادفة للربح، ينتظم بها بعض المواطنين لتقديم خدمات للمجتمع.
– التعريف يشمل نوعيات كتيرة زي الجمعيات الخيرية، والمنظمات الحقوقية، والنقابات، والاتحادات التجارية، والاتحادات العمالية، والتعاونيات، والأندية.
– طبعاً المنظمات زي أي مجال في البلد، فيها الكويس والوحش، والشريف والنصاب، والشاطر والخايب .. لا ملايكة ولا شياطين.
*****
“الموضوع ده جديد الغرب عمله عشان يتآمر علينا”؟
– فكرة منظمات المجتمع المدني جذورها ترجع لأيام الإغريق، وفضلت تتبلور في التاريخ الحديث بمساهمة مفكرين زي جون لوك ومونتيسكو وجان جاك روسو، إلي أن أخدت شكل أوضح بالقرن التاسع عشر. الفكرة دخلت إلى الفلسفة السياسية كتعبير عن قدرة المجتمع علي تنظيم نفسه لسد فجوات الدولة، واصبحت هذه المنظمات الضلع الثالث – مع الحكومة والقطاع الخاص – لمثلث الدولة المدنية الحديثة.
– مصر عرفت المجتمع المدني بوقت قريب من أوروبا، تشكلت أول جمعية أهلية مصرية عام ١٨٢١ باسم الجمعية اليونانية بالإسكندرية، واعترف دستور ١٩٢٣ لأول مرة بحق المصريين في التجمع وتكوين الجمعيات، ووصل عددها إلى ٦٣٥ عام ١٩٤٥.
– أول منظمة حقوقية مصرية أسسها الصحفي محمود عزمي سنة ١٩٣١ باسم الشعبة المصرية لحقوق الإنسان في باريس، وكانت تابعة للفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، اللي لحد النهاردة المنظمات المصرية بتتعامل معاها.
– المنظمات المصرية المتهمة بالقضية الحالية كلها قديمة جداً، بعضها من أكتر من ٢٠ سنة، وطول عمرها شغالة بشكل رسمي قانوني في قلب عصر حسني مبارك وتحت رقابة كل الجهات الحكومية والأمنية .. غريب جداً إن فجأة الدولة تاخد بالها دلوقتي!
*****
“بس دول بياخدوا تمويل من الخارج، يبقو عملاااااء!”
– أولاً كل تمويل المنظمات يخضع لرقابة حكومية كاملة، من أول البنك المركزي ووزارة التضامن الاجتماعي اللي كل مليم بيدخل عبرهم، وحتى الجهاز المركزي للمحاسبات ومصلحة الضرائب .. لا يوجد في القضية أساساً أي اتهام بتمويل (غير قانوني).
– المنظمات وحرية تمويلها بند موجود في التزامات دولية كتير وقعتها مصر بكامل إرادتها من سنوات طويلة، فاللي رافض الموضوع من حيث المبدأ يبقى يدعو الحكومة للانسحاب من الاتفاقات!
– بعض الاتفاقات دي زي اتفاقية المعونة الأمريكية منذ عهد السادات، واتفاقية المشاركة المصرية الأوروبية الموقعة في ٢٠٠١، بتمنح الحكومة المصرية مزايا سياسية واقتصادية ومالية كبيرة، والمنظمات جزء صغير جداً منها.
– بشكل عام مصر من أعلى الدول في تلقي المساعدات بالعالم، ده يشمل مجالات كتير من أول سلاح الجيش بالمعونة الأمريكية، لحد تطعيمات الأطفال ومشاريع الصرف الصحي .. الأزمة الاقتصادية المزمنة بتجعل الحكومة والمجتمع المدني بحاجة دائمة لتمويل خارجي.
– في أوقات كتير الجهات المانحة بتكون جمعيات أجنبية بتتلقى تبرعات المواطنين، والعديد من المنظمات المصرية المعروفة لا تتعامل مع أي تمويلات حكومية.
– رسمياً الأغلبية الساحقة من التمويل الخارجي راحت لمنظمات أقرب للحكومة أو لجهات دينية، مش للعمل الحقوقي أصلا!
التقرير الرسمي من لجنة تقصي الحقائق بوزارة العدل الصادر في نوفمبر ٢٠١١، قال إن أضخم تمويل في مصر حصلت عليه جمعية أنصار السنة المحمدية تلقت ٢٩٦ مليون جنيه من مؤسسات كويتية وقطرية، علماً بأن ده كان بشكل قانوني وافق عليه وزير التضامن الأسبق علي مصيلحي.
وكمان حصلت مؤسسة محمد علاء مبارك، حفيد الرئيس الأسبق، على تمويل ٨٦ مليون جنيه من جهات إماراتية وعمانية، وده برضه كان بشكل قانوني.
– المستشار أشرف العشماوي، الرئيس السابق لنيابة أمن الدولة العليا، وقاضي التحقيق الأول بقضية التمويل الأجنبي، واللي اعتذر عنها بعد سفر المتهمين الأمريكيين للخارج، قال في أكثر من حوار صحفي إن القضية لم يكن متهماً بها بالتمويل المخالف للقانون أي من الناشطين السياسيين أو أي مركز حقوقي مصري.
القضية كانت بتحقق حول ٤ منظمات أمريكية ومنظمة ألمانية، صدر فيها بعدين أحكام غيابية لمخالفتهم القانون، وعن جمعيات تابعة لتيارات إسلامية.
واللي حصل ان القضية اختفت من ٢٠١١، وفجأة رجعت تاني بأواخر ٢٠١٤ ليتم ضمن المنظمات المصرية والحقوقيين المصريين ليها!
– محكمة القضاء الإداري أصدرت حكمين تاريخيين في ١٩ أبريل وفي ١١ سبتمبر بأحقية منظمات المجتمع المدني في تلقي التمويل من الخارج، وعدم أحقية وزارة التضامن في رفض التمويل “ما دامت الجهة الإدارية لم تقدم الدليل علي أن أنشطتها تضر بالنظام العام أو الأمن العام أو المساس بالآداب العامة”.
*****
إيه الأدلة على المخالفات اللي ارتكبتها المنظمات؟
حالياً مشكلة الدولة هو إن المنظمات بتعمل شغلها مش أكتر.
– مثلاً دليل رئيسي بالقضية هو ١٠٧ صورة من أخبار وبيانات تم نشرها على الانترنت!
يعني مفيش أصلاً أي تهمة بتخابر سري مع أجانب، ولا حتى إنها معلومات كاذبة أبداً .. الجهات الأمنية محاولتش تثبت أي حاجة من كده أصلاً.
– اللي بيحصل في جلسات التحقيق إن الظباط بيعرضوا قدام القضاه الشغل المنشور، ويستعرضوا بيانات التمويل من واقع مستندات وزارة التضامن والبنوك لأن كلها رسمية 100%، وبيشهدوا إن ده يؤدي إلى “الإضرار بالأمن القومي، وزعزعة الاستقرار، والتشجيع على الفوضى وانهيار الأمن، وتشجيع الانقسام داخل المجتمع، والترويج لفشل النظام” وإلى “تشويه صورة مصر في الخارج”.
بدل ما يتقال هل ده صدق ولا كذب؟ لو المشكلة دي حصلت نحلها ازاي؟ المطلوب السكوت أصلاً كأن الكلام هوا سبب المشكلة، والسكوت هيخليها تتحل!
****
“دول قدموا إيه للبلد؟ إحنا بنسمع عنهم لما تيجي سيرة السجون والتعذيب بس؟”
– الغالبية الساحقة من 40 ألف جمعية ومنظمة في مصر شغلها خارج المجال السياسي تماماً .. تكمل دور الدولة عبر أنشطة تشمل المؤسسات الخدمية زي المدارس والمستشفيات، وتشمل الدراسات والأبحاث وتقديم حلول، واقتراح مشاريع قوانين بتتقدم للبرلمان، وتنظيم تدريبات ودورات.
– حتى المنظمات اللي موجودة في القضية، واللي السلطة مستاءة من أنشطتها بمجالات الحريات والعدالة الجنائية، عندها عمل كبير بمجالات التعليم والاقتصاد والصحة والإسكان ..الخ.
تقدروا مثلاً تفتحو موقع “المبادرة المصرية للحقوق الشخصية” وتشوفو الشغل الهايل على الملفات دي من خبراء ومتخصصين، واللي منهم اللي بيتعاون حتى الآن مع الحكومة .. مثلاً د.علاء غنام مسؤول ملف الصحة بالمبادرة هو حاليا عضو اللجنة العليا لصياغة قانون التأمين الصحي اللي هتقدمه وزارة الصحة للبرلمان.
– واحدة من المنظمات اللي تم التحفظ على أموالها وأموال مديرها هي “المركز المصري للحق في التعليم”، واللي فعلاً ملوش أي نشاط خارج مجال التعليم.
– إزاي بعدها يتقال “أصله مفيش بديل” و”لازم الشعب يساعد الحكومة”! .. ده اللي بتعمله المنظمات بالظبط، وفي كل شغلها بتتواصل مع الجهات الحكومية المعنية وبتوصلها كل أبحاثها وتوصياتها.
– وأكيد برضه مش عيب الشغل الحقوقي بملفات زي التعذيب، توثيق الحالات وتقديم الدعم الصحي والقانوني لضحاياه، وفضحه مجتمعياً، خاصة إن كتير من الحالات وصلت للقضاء وترافع فيها محامو المنظمات وصدرت فيها أحكام بالفعل .. العار على اللي بيعذِب مش على اللي بيقف مع المظلوم.
وبالمناسبة من ساعة فيديو هتك عرض “عماد الكبير” بعهد مبارك وإلى اليوم، أغلب حالات الموت تحت التعذيب بتكون لجنائيين عاديين جداً مش قضايا سياسية أصلاً.
ومن أغرب الحالات التحقيق الجاري حالياً مع المحامي نجاد البرعي، رئيس المجموعة المتحدة للمحاماة، عشان عمل ورشة لاقتراح قانون لمنع التعذيب!
– حالياً الرؤية العالمية إن المنظمات شريك أساسي بخطط التنمية الدولية اللي اعتمدتها الامم المتحدة، وخاصة في مجال التنمية المستدامة.
– يشير تقرير من منظمة التعاون والتنمية إلى أن المنظمات في العالم حصلت عام ٢٠٠٩ علي مساعدات بحوالي ٢٢ مليار دولار، أو ما يساوي ٢٠٪ من المساعدات الرسمية العالمية، مما يؤكد مرة أخرى أنها أصبحت شريك أساسي بالمنظومة العالمية .. دورها يمثل مشاركة شعبية، وكمان رقابة شعبية.
*****
إيه المشاكل القانونية اللي بتواجه المنظمات في مصر؟
– على الرغم من أن الدستور فيه كلام محترم جداً عن منظمات المجتمع المدني، لكن المشكلة الرئيسية دلوقتي في تعديلات المادة ٧٨ من قانون العقوبات، اللي صدرت بقرار جمهوري في أكتوبر ٢٠١٤، واللي صدرت بعبارات عامة جداً غير مسبوقة في التاريخ القانوني المصري، عشان كده ساعات بيسموه عليه “قانون الأشياء الأخرى”.
– نص المادة بيقول:
“كل من طلب لنفسه أو لغيره، أو قبل أو أخذ ولو بالواسطة من دولة أجنبية، أو ممن يعملون لمصلحتها، أو من شخص اعتباري، أو من منظمة محلية أو أجنبية، ((أو أي جهة أخرى لا تتبع دولة أجنبية ولا تعمل لصالحها))، أموالا سائلة أو منقولة أو عتادًا أو آلات أو أسلحة أو ذخائر أو ما في حكمها ((أو أشياء أخرى))، أو وعد بشيء من ذلك، بقصد ارتكاب عمل ضار بمصلحة قومية أو في حكمها ((أو أشياء أخرى))، أو المساس باستقلال البلاد أو وحدتها أو سلامة أراضيها أو القيام بأعمال عدائية ضد مصر أو الإخلال بالأمن والسلم العام يعاقب بالسجن المؤبّد وبغرامة لا تقل عن ٥٠٠ ألف جنيه إذا كان الجاني موظفًا عامًا أو مكلفًا بخدمة عامة أو ذا صفة نيابية عامة أو إذا ارتكب الجريمة في زمن الحرب أو تنفيذا لغرض إرهابي”
– ده بالاضافة لقوانين أخرى فيها برضه الصيغ الفضفاضة، سواء قوانين غير مباشرة كقانون الكيانات الإرهابية، أو قانون الجمعيات الأهلية نفسه، القانون ٨٤ لسنة ٢٠٠٢، وهو رغم اشتماله على إيجابيات زي انشاء المنظمات بالإخطار، لكنه يمنح الدولة الحق في إنهاء عمل المؤسسات بقرار اداري وفقا لأسباب عامة زي ممارسة نشاط “يهدد الوحدة الوطنية أو يخالف النظام العام أو الآداب”.
***
طيب إيه الحل؟
– أولاً الحل في جانب منه سياسي مش تقني، زي ما قلنا سبب الأزمة أصلاً إنهم بيعملوا شغلهم.
– كحلول عملية إضافية فوق الآليات الرقابية الحالية، لزيادة طمأنة كل الأطراف بموضوع التمويل، يمكن انشاء كيانات إضافية ولو مؤقتة .. ممكن الاستعانة بجهة إشرافية مشتركة من الجهات الإدارية بالحكومة (وليست الأمنية) وممثلين عن منظمات المجتمع المدني، تكون مهمتها الاساسية تلقي إخطارات بالتمويل، ومراجعة تقارير دورية علنية عن الإنفاق لتعزيز الشفافية.
فكرة شبيهة بدي مطروحة في مسودة الحكومة لقانون الجمعيات، لكن المنظمات ترفضها لأن فيها اللجنة ستضم ممثلين للداخلية وللمخابرات، رغم إنه جزء من عمل المنظمات الرقابة الشعبية على الجهات الأمنية، وفيه بالفعل خصومة معاها.
– يمكن نقل تجارب مماثلة في دول العالم، ومنها أساليب الرقابة اللاحقة او التفتيش العشوائي الدوري زي اللي بتطبقها أمريكا ودول أوروبية.
– الحلول التقنية كتير، لكن الإرادة السياسية هي الأساس، وبعدها ممكن التفاوض لصالح الطرفين، بحيث تضمن الجمعيات حرية أنشطتها، وفي المقابل تقدم كل ما يطمئن المجتمع والحكومة علي نحو يعزز المسئولية والشفافية .. المهم تصدق النية للتعاون لا العداء .. ده مبارك نفسه محصلش بعهده كل المشاكل دي!
– الدولة الجادة هي اللي تستفيد من الجهد اللي ممكن تقدمه هذه المنظمات وتضع الأُطر القانونية والإدارية العادلة .. الدولة محتاجة اعادة النظر في علاقتها بالمجتمع المدني، خصوصا في ظل ظروف اقتصادية صعبة وزيادة سكنية متسارعة.
الحلول الأمنية دائما سهلة ولكنها لها تكلفتها، واللي منها فعلاً الاساءة لسمعة مصر، بالاضافة الي فقدنا مزايا وجهود كثيرة اقتصادية واجتماعية.