وسائل إعلام وناس كتير اتكلموا الأسابيع اللي فاتت عن اللي بيحصل في الليرة التركية، وانهيارها المفاجئ خلال أسابيع وبعدها صعودها مرة ثانية.
هنحاول هنا نشرح بشكل بسيط ومختصر، قدر الإمكان ايه اللي بيحصل مع الليرة وأسبابه، وايه المتوقع خلال الفترة الجاية على المستويين الاقتصادي والسياسي، مع التأكيد على إن الكلام الجاي مش تحليل اقتصادي متخصص وإنما محاولة لفهم اللي بيحصل بعيداً عن الانحيازات الأيديولوجية المؤيدة أو المعارضة للنظام في تركيا.
*****
بس قبل دا لازم نلقي نظرة بشكل عام على السياق الخارجي والداخلي اللي بتحصل فيه التحولات دي:
– تدخلات خارجية وأزمات داخلية
لو جربت قبل الثورات العربية في 2011 تسأل حد ماشي في الشارع عن فكرته وانطباعه عن تركيا، ورجعت تسأله نفس السؤال دلوقتي، هتحس من إجاباته في المرتين إنه بيتكلم عن بلدين مختلفين مفيش أي رابط بينهم.
الحقيقة المشكلة مش عند الشخص اللي انت سألته، لأن فعلاً تركيا قبل 2011 غير تركيا اللي نعرفها دلوقتي تماماً، وطبعاً مش هي بس اللي اتغيرت، مصر والإقليم كله كمان اتغيروا، خلال العشر سنين اللي فاتوا، لكن اللي حصل مع تركيا كان مذهل، مع تحولها من دولة متصالحة مع كل محيطها ومفيش أي قوى دولية بتعاديها بشكل مباشر وبتنتهج سياسة خارجية قائمة على مبدأ “صفر مشكلات”، لدولة تقريباً عندها مشاكل ممكن توصل لدرجة الاشتباك العسكري، مع كل جيرانها وأغلب الأطراف الدولية بما فيها أمريكا وروسيا (في مرحلة سابقة). الصين الوحيدة اللي فلتت.
من غير ما نستغرق في التفاصيل، خلينا نشير لكام حاجة في صورة نقط:
– تدخلات عسكرية: تركيا خلال الكام سنة اللي فاتوا تدخلت عسكريا في سوريا من خلال 3 عمليات كبيرة (درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام)، وبعتت عسكريين لمساعدة حكومة طرابلس في ليبيا، ولسة بتخوض حرب ضد مسلحي حزب العمال الكردستاني شمال العراق، وساندت دبلوماسياً وتقنياً أذربيجان في حربها الأخيرة مع أرمينيا.
– علاقات متدهورة: كل دا بالإضافة للدخول في حرب كلامية مع اليونان وفرنسا ووراهم الاتحاد الأوروبي، وعلاقاتها بدول خليجية زي السعودية والإمارات وصلت لأسوأ مستوياتها، وطبعاً مفيش داعي للكلام عن علاقة النظام التركي بالنظام المصري بعد 3 يوليو 2013، دا غير تدهور الوضع مع الأمريكان اللي يُعتبروا حلفاء تاريخيين لأنقرة من وقت تأسيس الجمهورية قبل 100 سنة تقريباً.
– أوضاع داخلية ساخنة: أمّا بخصوص الوضع الداخلي خلال نفس الفترة، فهو ما كانش أقل إثارة أبداً من كل اللي فات… خلال الفترة دي حصلت تحولات داخلية كبيرة منها مظاهرات جيزي بارك في 2013، وقرار رئيس الوزراء وقتها (ورئيس الجمهورية الحالي) رجب طيب أردوغان في 2014 إنه ما يتركش المشهد السياسي ويترشح لرئاسة الجمهورية، وإنهاء محادثات السلام مع حزب العمال الكردستاني ودخول الدولة مرة تانية في معارك عسكرية معاه جوة تركيا وبراها، وبداية الصراع مع جماعة فتح الله جولن المصنفة الآن “إرهابية” في تركيا، ومحاولة الانقلاب في 2016 واللي حصل بعدها موجة قمع كبيرة للحريات والصحافة وكثير من المعارضين، انتهاءً بتحول النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي في 2018.
– استقالات وتغيّر في التحالفات: كمان داخلياً فيه تطور مهم حصل، وهو إن حزب العدالة والتنمية الحاكم بدأ يتراجع في الانتخابات لغاية ما اضطر في 2015 لأول مرة من ساعة وصوله للسلطة في 2002، إنه يتحالف مع حزب الحركة القومية (اليميني جداً) عشان يشكل الحكومة، ودا ضمن أسباب تانية، دفع قيادات تاريخية في الحزب للاستقالة، منهم عبد الله جل وبولنت أرينتش وأحمد داوود أوغلو (اللي شغل في فترات مختلفة منصبي وزير الخارجية ورئيس الوزراء) وعلي باباجان (اللي كان يُعتبر مهندس الاقتصاد التركي لغاية 2015).
آخر اتنين أسماءهم هتيجي معانا كتير، لأنهم تحوّلوا بعد استقالتهم من العدالة والتنمية بفترة لمعارضين شرسين لأردوغان وأسسوا حزبين (داوود أغلو أسس حزب المستقبل، وعلي باباجان أسس حزب الديمقراطية والتقدم DEVA “دواء”).
كل دا طبعاً أثّر بشكل مباشر في الاقتصاد التركي اللي كان في لحظة بيُنظر له على إنه اقتصاد واعد قدر يحقق إنجازات كبيرة خلال فترة قصيرة، والموضوع ما وقفش عند النقطة دي لكن كمان جات جائحة كورونا بكل آثارها السلبية على الأنظمة الاقتصادية في العالم، وضربت تركيا بشدة.
كمان التطورات الاقتصادية دي بتحصل قبل سنة ونص بس من انتخابات (رئاسية وبرلمانية) بتوصف بأنها هتكون حاسمة في تحديد السياسة التركية المستقبلية. وبالمناسبة المعارضة بتطالب بقالها فترة بتبكير ميعاد الانتخابات، ودي نقطة هنجيلها في الآخر.
*****
– قصة الفائدة والسقوط الحر لليرة.. “الفائدة سبب والتضخم نتيجة”
عبارة كررها أردوغان في أغلب خطاباته في الفترة الأخيرة، والمقصود بيها إن كل ما نسبة الفائدة كانت مرتفعة، التضخم (يعني ارتفاع أسعار السلع والخدمات) هيزيد، وهنا هو بيحيل لنظرية اقتصادية معروفة مفادها إن نسبة الفائدة المرتفعة بتخلي الناس تحط فلوسها في البنوك وتستفيد بأرباحها بدل ما توجّه الفلوس للإنتاج الحقيقي، اللي بالتالي هينعكس على النمو الاقتصادي في البلد وفي النهاية تقل معدلات التضخم.
النظرية دي وإن كان اقتصاديين كتير متفقين على صحتها بشكل عام، إلا إن فيه خلاف كبير بخصوص إمكانية صلاحيتها للاقتصاد التركي بكل ما فيه من مشكلات هيكلية، فمثلاً اقتصاديين أتراك زي علي باباجان وأوزجور دميرطاش وعثمان ألتوغ وغيرهم، بيتكلموا عن ضرورة حل أساس المشكلة، مش أعراضها، ويقصدوا بدا التعامل مع مشكلات مرتبطة بهيكلة الديون في تركيا والأوضاع السياسية وطبيعة البنية الإنتاجية في البلد، وتفاصيل اقتصادية تانية متخصصة.
المهم رفض أردوغان لأسعار الفائدة المرتفعة مش جديد، والموضوع بادئ تقريباً من وقت وصوله للسلطة، لدرجة إنه في 2003 (بعد وصوله للحكم بأقل من سنة) دخل في معركة بخصوص نفس الموضوع مع محافظ البنك المركزي وقتها ثريا سردانغتشتي، وانتهت بأن الأخير أكّد إنه رغم تفضيل الجميع أسعار فائدة منخفضة، فإن “الفائدة لا (يجب أن) تنخفض بالضغوط السياسية”، واتكلم ساعتها عن أهمية استقلال البنك المركزي عن السلطة السياسية للاقتصاد وثقة المستثمرين، وهي مسألة حتى الآن بتطالب بيها المعارضة.
*****
طيب طالما المعركة قديمة كدا، ايه المختلف المرة دي؟
في الفترة الأخيرة أردوغان بقى مصمم على خفض سعر الفائدة بأي ثمن، ووصف المسار بـ”النموذج الاقتصادي الجديد لتركيا”، وأكد إن الفائدة أصل البلاء وإنه لن يتراجع عن إزالة “العبء الذي تشكّله من على كاهل مواطنينا”.
وفي السياق دا ومع تصاعد الخلافات حتى داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم، أردوغان غيّر محافظي البنك المركزي 3 مرات خلال سنتين فقط، كان آخرها مارس 2021, لما عيّن المحافظ الحالي شهاب قاوجي أوغلو. وخلال 3 سنين تقريباً ولنفس السبب في الأغلب، اتغير وزير المالية 3 مرات، كان آخرها في 2 ديسمبر لما اتعين وزير المالية الحالي نور الدين نباتي، ودا دفع أحمد داوود أوغلو (اللي كان رئيس الوزراء لغاية مايو 2016)، ينتقد اللي بيحصل بشدة، ويقول: “لما عدد وزراء المالية خلال 20 سنة من 1998 لـ2018 يبقى 5، وخلال 3 سنين بس بعد الانتقال للنظام الرئاسي، يكون 3 بمعدل واحد كل سنة، يبقى دا اسمه انهيار مؤسسي”.
المهم بعد شد وجذب على مدار شهور، قدر أردوغان بالفعل إنه يخفّض سعر الفائدة 4 مرات متتالية أولهم في 23 سبتمبر وآخرهم في 16 ديسمبر من 19% لـ14%، ولكن ضريبة خفض الفائدة بالشكل دا كانت كبيرة جداً، لأن سعر الليرة وقع بسرعة وصفها كثير بأنها “سقوط حر”، تقريباً من 8.60 لـ18.43 ليرة مقابل الدولار الأمريكي الواحد، يعني الليرة خسرت حوالي 114% من قيمتها خلال أقل من 3 شهور، لغاية ما أعلن أردوغان عن الآلية الجديدة اللي هنتكلم عنها قدام.
*****
– الإحالة للنص الديني
رغم إن أردوغان زي ما قلنا كان معارض لأسعار الفائدة المرتفعة على مدار سنين، إلا إن خطابه المرة دي كان فيه تطور مهم، وهو إنه لأول مرة يربط رفضه لـ”الفائدة” بشكل صريح بالنص الديني اللي بيُحرّم “الربا”، وقال بالحرف: “بوصفي شخصاً مسلماً، سأستمر في فعل ما تأمرني به النصوص (الدينية)”.
التطور دا زي ما لاقى استحسان كثير من المتدينين الأتراك اللي ربطوا مشاكل تركيا الاقتصادية بالابتعاد عن الأوامر الإسلامية بتحريم الربا، كمان أثار موجة من الانتقادات الشديدة مش بس من خصوم أردوغان العلمانيين لكن أيضاً من ناس كانوا قيادات في العدالة والتنمية لغاية وقت قريب زي أحمد داوود أوغلو وعلي باباجان.
فمثلاً في حين إن جارو بايلان النائب الأرمني في البرلمان عن حزب “الشعوب الديمقراطي” المعارض اتهم أردوغان بخيانة مبادئ العلمانية في دولة المفروض إنها “تكون محكومة بنصوص الدستور مش النصوص الدينية”، خرج داوود أوغلو وباباجان وعبّروا صراحة عن رفضهم المطلق لتصريحات الرئيس، ووصفوها بأنها “استغلال لمشاعر المواطنين الدينية”.
دا غير الانتقادات الشديدة اللي أطلقها كمال كيلتشدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري، أكبر حزب معارض في البرلمان، واللي وصل في لحظة إنه وجه تحذيرات مباشرة للمسؤولين البيروقراطيين في البنك المركزي، وتوعّد بأن الجميع هيتحاسب على أي قرارات ياخدوها، وطالبهم بأنهم ما ياخدوش أوامر من أي حد غير ضمايرهم وعقولهم.
*****
دا باختصار كان السبب المباشر لهبوط سعر الليرة التركية بالشكل المفاجئ اللي شفناه. في الحلقة التانية، هنتكلم عن القرارات الأخيرة اللي أعلنها أردوغان واللي أعقبها تعافي جزئي لسعر صرف الليرة، وهنوضح فكرتها ومبرراتها والانتقادات اللي وُجّهت ليها ومخاطرها على الاقتصاد التركي بشكل عام.