– من أيام مؤسسة بي بي سي البريطانية بالتعاون مع جريدة التايمز نشروا تحقيق استقصائي مهم، بيشكف ان قادة عسكريين في الجيش البريطاني تستروا على أدلة تورط جنود بريطانيين في جرائم في العراق وأفغانستان تشمل قتل وتعذيب مدنيين منهم أطفال.
– التحقيق أذيع كفيلم في برنامج بانوراما على قناة بي بي سي 1 ، وادى لردود أفعال كبيرة، أهمها ان لأول مرة رسميا المحكمة الجنائية الدولية في لاهالي قالت انها تقيم ما وصل له تحقيق بي بي سي، وقد تفتح قضية لأول مرة ضد بريطانيا، وده أثار استياء الجيش البريطاني اللي احنا تعاوننا بالكامل مع المحكمة “ولا مبرر لتدخلها”.
– هنشوف النهاردة ايه قصة الانتهاكات دي؟ وايه كانت ردود الأفعال على ملف بالخطورة دي؟ وازاي بتقدر الصحافة الحرة تتعامل مع الحالات دي؟
******
ايه قصة الانتهاكات؟
– خلال فترة تدخل الجيش البريطاني في الحرب على العراق وأفغانستان حصل أكثر من انتهاك لحقوق الإنسان و”قواعد الاشتباك” في الحروب والقانون الدولي، ولانتهاكات دي ترقي أنها تكون جرائم حرب.
– أحد القضايا هي مقتل شرطي عراقي في البصرة سنة 2003 بعد ما تم إطلاق النار عليه وهو طالع من بيته، وقضايا تانية عن تعذيب مدنيين وأطفال في العراق أثناء وجود القوات البريطانية في البصرة.
– الجيش البريطاني حقق في قضية قتل الشرطي، وبعد التحقيق الأولي والاستجواب اللي عمله قائد الجندي اللي قتل الشرطي العراقي اتقفلت القضية على أنه الشرطي العراقي هو اللي استخدم سلاحه الأول، والجندي البريطاني كان في حالة دفاع عن النفس.
– بعدها وزارة الدفاع البريطانية عملت لجنة للتحقيق في الواقعة ووقائع أخري سنة 2010 اسمها لجنة ” الادعاءات التاريخية في العراق ” Iraq historic allegations team (IHAT)، اللجنة بعد ما قابلت أكتر من 80 جندي بريطاني منهم الجنود اللي حضروا الواقعة خلصت أنه رواية الجيش غير سليمة وأنه يجب محاسبة الجندي البريطاني وقادته على التستر على جرائم حرب. لكن اللجنة تم وقفها من الحكومة في 2017 من غير محاسبة أي شخص لعدم كفاية الأدلة، وكانت الحجة الرئيسية هي كشف ان المحامي فيل شاينز اللي قدم اكتر من 1000 حالة كان دفع فلوس لوكلاء في العراق يجيبوله حالات يوكلوه ليترافع في قضاياهم.
– بالمثل في أفغانستان، جنود بريطانيين قتلوا عائلة كاملة منها أطفال لأنهم اشتبهوا في أنهم قادة لطالبان، وبعد تشكيل لجنة من وزارة الدفاع تحت اسم ” العملية نوث مور ” في عام 2014، حققت اللجنة في 52 عملية قتل غير قانونية مزعومة قام بها جنود بريطانيون في أفغانستان.
– وأعلنت الحكومة إغلاق التحقيق قبل ما حتى الشرطة العسكرية تقدر تقابل أي شهود أفغان أو أي شخص من عائلات الضحايا.
******
ايه اللي كشفه تحقيق بي بي سي؟
– بعد توقف عمل لجان التحقيق الحكومية في 2017، بدأت الصحافة تتكلم عن الموضوع وأنه ده تستر على جرائم حرب، لحد ما بدأت البي بي سي والتايمز يعملوا التحقيق الاستقصائي بتاعهم عن ملفات اللجان اللي حققت في الموضوع.
– التحقيق عمل مقابلات مع 11 محقق من اللي كانوا في اللجان، وطلع ملفات التحقيقات في قضايا كثيرة، وانتهت التحقيقات لنتيجة وهي إنه وزارة الدفاع البريطانية تسترت بالفعل على جرائم حرب، واستخدمت حجة المحامي دي.
– في قصة الشرطي العراقي رائد الموسوي مثلا، تمت أعادة استجواب الشاهد الوحيد على الواقعة فقال انه مشافهاش بعينه أصلا لكن بس كان في مكان قريب، وقال كمان انه سمع صوت رصاصة واحدة فقط، وده معناه كذب رواية ان الجندي العراقي اطلق النار، واللجنة كانت أوصت بمحاكمة الجندي القاتل، لكن النيابة العسكرية مقدمتوش للمحاكمة.
– بعد ظهور نتائج التحقيق، صرح المتحدث باسم وزارة الدفاع بأنه ” الاتهامات التي خلصت إليها بي بي سي، تم نقلها إلى شرطة الخدمة بوزارة الدفاع وسلطة النيابة العامة وهما منفتحتان على التحقيق في هذه المزاعم”.
***********
ايه اللي ممكن نشوفه في كل ده؟
– قصة زي دي بكل تعقيدتها بتقول لنا حاجات كتيرة أوي على طريقة إدارة الدول بشكل عام.
– أولاً محدش طلع خون البي بي سي والتايمز، وقال أنهم ممولين من الخارج لتشوية صورة الجيش البريطاني البطل، أو أنه دي مؤامرة على الجيش البريطاني، وليه دلوقتي بالذات افتكروا بعد كل المدة دي وبعد ما كل الناس نسيت؟ بالعكس متحدث الجيش نفسه أتكلم باحترام شديد عن العمل الصحفي ده وكمان ساب الاحتمال مطروح لاعادة فتح التحقيقات بناء على اللي اتنشر في الصحافة.
– ممكن حد يقول هي مش البي بي سي دي تبع الحكومة البريطانية؟ فإزاي تشترك في تحقيق ضد مصالح الحكومة دي؟
والحقيقة أنه فعلا بي بي سي مفيش أي تدخل حكومي في عملها، لأنه الهيكل التمويلي بتاعها مستقل عن طريق ضرائب شعبية على مشاهدة البث الحي للتلفزيون سنويا، حوالي 145 جنيه إسترليني سنويا بيدفعها أي بريطاني عنده تلفزيون أو بيشاهد بث حي عبر الموبايل أو أي وسيلة، واسمها ضريبة “رخصة التلفزيون”.
– وفوق كده بي بي سي عندها خدمات مدفوعة، الفيلم ده نفسه اتعرض على التلفزيون لكن مش موجود على يوتيوب، ومتاح فقط على منصة “بي بي سي آي”.
– طبعا الوضع ده بيضمن استقلالية كبيرة للبي بي سي، مش زي الجرائد الحكومية اللي عندنا اللي برضه بتاخد فلوس من ضرائب المصريين، لكنها بتاخدها من الحكومة مش من ضريبة مخصصة ليها بهيئة اشراف مستقلة زي بي بي سي، وطبعا كل شغلها مدح وتمجيد أي حد في السلطة لأن الحاكم ده يقدر يفصل أي موظف شغال، ومتقدمش خدمة إعلامية حقيقية للمواطنين، وده ينطبق برضه على القنوات الخاصة المملوكة المملوكة للأجهزة الأمنية اللي هي برضه فلوس المصريين.
– حاجة مهمة برضه بتوضحها القصة وهو انه بالتأكيد الأخطاء بتحصل في كل مكان، بريطانيا عندها فساد وجرايم قتل وسرقة وكمان جيش أفراده ممكن يرتبكوا جرايم، لكن الفارق الكبير في حجم الخطأ وفي التعامل معاه، وان دايما موجود آليات للرقابة والمراجعة، ومؤسسات مستقلة مش فرد واحد يحكم كل حاجة.
– وطبعا ده كله جزء من مناخ أوسع فيه انتخابات ديمقراطية حقيقية، وتداول سلمي للسلطة بيتغير فيه الحاكم كل سنوات قليلة، فمفيش مجال لصنع شبكات فساد واستبداد مستقرة.
– نفس أهمية المناخ الديمقراطي والاستقلالية الصحفية تنطبق على الصحافة الأمريكية اللي فضحت بنفسها جرايم للجيش الأمريكي، أشهرها التعذيب في أبوغريب، ومحدش اتهم الصحافة هناك بالعمالة أو خيانة بلدها أو إنهم أعداء للجيش، بل بالعكس حصلت تغييرات كبيرة بعدها وكمان حاكموا بعض اللي ظهروا في الصور اللي اتنشرت، لان ده صميم عمل الصحافة، وصميم وجود “دولة مؤسسات”، ولأنهم مجتمعات حرة ودول ديمقراطية فالكشف عن الأخطاء مبيعتبرش حاجة عيب أو جريمة.
*******
– طبعاً تزامن القصة دي بعد فترات كتير كان الاعلام المصري اللي بيديره ظباط المخابرات من “جهاز سامسونج” كل فترة يعمل حملة ضد ال BBC، باعتبارها بتخدم أهداف المخابرات الانجليزية وبتعمل ضد مصر، وأحياناً اللي يتهمها بعدم المهنية أحمد موسى ونشأت الديهي وتامر أمين وغيرهم! وده بسبب بعض التحقيقات الصحفية اللي بتقوم بيها عن مصر أو إتاحتها فرص لظهور المعارضة على شاشتها رغم منع المعارضة من الظهور نهائياً في الإعلام المصري الحكومي والخاص.
– بالتأكيد عندنا قصص كثير من سيناء مثلاً عن ضحايا القصف العشوائي واعتقال المدنيين في سجون عسكرية، أو حتى الوضع المعيشي للأهالي في سيناء، لكن ده بيحصل من غير أي شغل بحثي أو صحفي واحد مستقل عن العمليات دي، والعقاب بيكون كبير للي بيكتب ويحقق ويبحث عن الحقيقة زي الصحفي والباحث إسماعيل الاسكندراني اللي اتحاكم عسكريا بسبب ده.
– وغير موضوع سيناء مواضيع كتير فيها إنتهاكات وقصص فساد وتضليل للمواطنين الصحافة المصرية مبتقدرش تشتغل عليها وتكشفها نتيجة الظروف اللي اتكلمنا عنها، آخرهم مثلاً الزيارات المضحكة اللي بتتم للسجون وتصويرها باعتبارها فنادق 5 نجوم من غير مايقدر صحفي واحد يعمل حوار مستقل وحقيقي مع المساجين وأهاليهم.
– بدون الديمقراطية حنفضل نلف في دائرة مغلقة من تخوين الناس والقبض عليهم ومشاكل ملهاش نهاية على المدى الطويل بتساهم في زيادة أزمات مصر الداخلية والخارجية .. لديمقراطية وممارسة الديمقراطية على المدى الطويل هي الطريق الوحيد لضمان وجود وسائل لكشف الحقيقة منها الصحافة المستقلة، ومحاسبة الفاسدين والمخطئين، ومشاركة الشعب في اتخاذ القرارات وتحل نتائجها.
– نتمنى في يوم نشوف الصحافة في مصر كدا، ونشوف مؤسسات دولة حريصة فعلاً على القانون والديمقراطية وعلى حقوق المجتمع.
*******