يوم الحد اللي فات اتوفى خالد محيي الدين، آخر الباقين من مجلس قيادة الثورة اللي شكلته حركة الضباط الأحرار سنة 52، عن عمر يناهز 95 عام بعد صراع طويل مع المرض.
– بنعزي أنفسنا وكل المهمومين بقضايا الديمقراطية والعدل الاجتماعي برحيل شخص حاول بأقصى وسعه واجتهاده يدعم الملفات دي.
– مهم نفتكر حياه خالد محيي الدين لأن قصته بتلخص قصة تاريخ مصر الحديث، الصراع بين الديمقراطية وبين السلطوية، ولأنه جايز لو كانت القصة اتغيرت في نقطة بمسارها كانت بلادنا والمنطقة بقت في وضع مختلف تماماً.
– خالد محيي الدين هو أحد أبناء التنظيمات الشيوعية المصرية تاريخياَ، قبل أن يؤسس هو ورفاقه جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر وكمال الدين حسين وعبدالمنعم عبدالرؤوف تنظيم سري داخل الجيش باسم الضباط الاحرار للإطاحة بالنظام الملكي.
– كان “الصاغ الأحمر” (رتبة صاغ هي رتبة رائد حاليا) كما لقبه عبدالناصر وفي لأفكاره اليسارية ومخلص لها، رفض بشدة اعدام العاملين خميس (19 سنة) والبقري (17 سنة) في سبتمبر 52 بسبب تنظيمهم لإضراب في كفر الدوار لكن باقي مجلس قيادة الثورة صمم على التنفيذ.
– في 1953 قدم خالد محيي الدين استقالته من مجلس قيادة الثورة بسبب اقرار قانون النقابات العمالية اللي بيجرم الاضراب وينهي دور النقابات العمالية، ولكن تم تمسك به حتى عدوله عن الاستقالة.
– سنة 1954كان لخالد محيي الدين دور رئيسي في أحد أهم اللحظات بتاريخ مصر الحديث، لحظة الخلاف داخل مجلس قيادة الثورة بين فريق يرى عودة الجيش للثكنات والانتهاء من الدستور وعودة الديمقراطية والحياة الحزبية وحرية الصحافة والانتخابات النزيهة، وده كان انحياز الرئيس محمد نجيب وخالد محيي الدين ومعاه سلاح الفرسان (المدرعات حالياً) اللي كان خالد ضابط به، وفي المقابل فريق كان يرفض فكرة الديمقراطية وعودة الاحزاب والدستور ويرى أن ده يتأجل لأن البلد لازم تتحكم بحزم عسكري للحفاظ على “أهداف الثورة”، وده كان أغلب الضباط الأحرار وعلى رأسهم عبدالناصر وعبدالحكيم.
*****

وخلينا هنا نستعرض فقرة من مذكرات خالد محيي الدين “الأن أتكلم” اللي نشرها بعد 40 سنة كاملة، وفيها شهادة مهمة وكاشفة للصراعات بأروقة الحكم والجيش:
“لعل قضية لم تظل محلاً للجدل والأخذ والرد حتى الان مثل علاقة ثورة يوليو بالديمقراطية، فبرغم أننا ومنذ الأيام الأولى لمحاولة بناء تنظيم الظباط الأحرار كنا نعتقد ونعلن ونتمسك بالديمقراطية كمخرج للوطن والشعب، ولكن نسينا في غمرة حماسنا ونحن ضباط عاديون أن الديمقراطية تعني في الأساس تداول السلطة، فما إن أصبحنا حكاماً حتى نسي البعض ما تعاهدنا عليه وتمسك بالسلطة.
كذلك فإن فكرة الانتخابات كانت تعني في الأيام الأولى للثورة عودة الوفد للحكم، ولقد قلت سابقاً أن الوفد لم يكن يحظة بشعبية في صفوف الجيش بسبب حادث 4 فبراير سنة 1942 (حادثة تعيين النحاس رئيس حكومة بطلب الانجليز) ثم بسبب ما أشيع عنه من فساد لحكومات الوفد المتتالية.
فإذا أضفنا إلى هذا أن جهابذة القانون الدستوري الذين أشبعوا مصر حديثاً عن الحريات والدستور، والذين اتشحوا بوشاح ليبرالي واضح كانو يحرضون زملائي في القيادة على عدم الاعتداد بالدستور أو الديمقراطية أو الانتخابات …. اتضح لنا أن مسار عبدالناصر باتجاه عدم الاعتداد بالديمقراطية لم يكن خروجاً غير مألوف، وعندما جاءت أحداث مارس 1954 خاضها عبدالناصر بكل ثقله واستطاع أن يسير مظاهرات تهتف “تسقط الديمقراطية”، وانتصر عبدالناصر في مارس 1954 لكنه لم يدرك أن كسب جولة كهذه شيء وكسب المسار التاريخي شيء آخر”.
*****

– بعد انتهاء أزمة مارس 54 وانتصار جناح عبدالناصر، وإفشاله محاولة انقلاب من سلاح الفرسان، تم وضع الرئيس نجيب بالاقامة الجبرية، وتقدم خالد محيي الدين باستقالته، وطالب جمال سالم باعتقالة لكن تم رفض الاقتراح وقرروا ابعاده عن مصر إلى سويسرا.
– دفع خالد محيي الدين ثمن موقفه وخرج بشكل مفاجيء من غير ما يودع أهله أو يعرف هيرجع امتى.
– سنة 1957 في اطار تقارب عبدالناصر مع الاتحاد السوفيتي تم السماح بعودة خالد محيي الدين ضمن التسامح مع هامش لليسار.
– أسس خالد محيي الدين جريدة المساء، لكن سرعان ما تصادم مرة أخرى مع عبدالناصر سنة 1958 بسبب تأييد اليسار لثورة تموز في العراق بقيادة عبدالكريم قاسم، بينما النظام الناصري كان ضدها، فتمت الاطاحه بيه من الصحافة.
– وباستثناء انتخابه لعضوية البرلمان في دايرته كفر شكر تم ابعاده تماماً من أي مشهد آخر بعهد عبدالناصر، بعكس باقي رفاقة بمجلس قيادة الثورة اللي أخدو أعلى المناصب ومنهم خرج أنور السادات الرئيس التالي.
*****

العمل الحزبي ونظرة على مسار حزب التجمع

– سنة 1974 قرر السادات لأول مرة أن تكون عضوية الاتحاد الاشتراكي اختيارية (كانت شرط اجباري للترشح بانتخابات مجلس الأمة أو النقابات أو المحليات أو العمد والمشايخ)، وسمح بتأسيس 3 منابر داخله، اللي تحولت بعدها سنة 1976إلى الأحزاب الأولى، وده بناء على تفاهمات دولية بسبب تقاربه مع أمريكا.
– أسس خالد محيي الدين جناح اليسار في الاتحاد الاشتراكي، ثم أسس حزب التجمع، وقاد الحزب ليكون صاحب خط مواجهة ضد سياسات السادات الجديدة في الانفتاح الاقتصادي ورفع الدعم والتصالح مع إسرائيل.
– تم انتخاب خالد محيي الدين عضو بالبرلمان، وسنة ١٩٧٩ حصلت مواجهة شرسة ضد إتفاقية كامب ديفيد قادها ١٥ نائب في صدارتهم خالد محيي الدين ونواب التجمع كمال أحمد و أبو العز الحريري وممتاز نصار لما السادات عرض الاتفاقية على البرلمان.
– السادات كان قبلها انشأ الحزب الوطني وانتقل له فورا نواب حزب مصر العربي الاشتراكي، وبهذه الاغلبية مرر الاتفاقية، وبعدها بأسبوع قرر السادات حل البرلمان وعمل استفتاء على القرارين، وتمت مصادرة جريدة التجمع لأنها نشرت نصوص الاتفاقية، واتعملت الانتخابات الجديدة تحت قانون جديد للأحزاب بينص على قبول اتفاقية السلام كشرط للموافقة على أي حزب، وتم تزوير الانتخابات ضد الرافضين وعلى رأسهم خالد محيي الدين اللي تم اعلان فوزه في البداية ثم اتغيرت النتيجة.

– سنة 1977 الحزب شارك في “انتفاضة الخبز”، وكانت جريدة الأهالي في قمة توزيعها واعتُبرت لسان حال ملايين المواطنين اللي تظاهروا ضد رفع أسعار السلع الأساسية، تمت مصادرة أعداد الجريدة اكثر من مرة، والسادات هاجم من على منصة البرلمان بالاسم مقالات كتابها زي صلاح عيسى وحسين عبدالرازق وغيرهم، وده اللي وصل للحظة صدام كبيرة سنة 1981 باعتقال قيادات الحزب ضمن 1500 شخص باعتقالات سبتمبر، والسادات شطب فقط اسم خالد محيي الدين من القائمة اللي قدمتها الداخلية، واكتفى بتحديد اقامته.

– بعد وصول مبارك للسلطة بدأ التحول التدريجي في مسار حزب التجمع، في البداية بفعل حرص مبارك على احتواء الأحزاب لعدم الوصول للحظة انفجار زي السادات، فعمل انتخابات 1984 و 1987 بنظام القوايم النسبية لضمان تمثيل عالي للأحزاب، حصل اتفاق ضمني على عدم التصعيد، وفي الاطار ده كان التجمع على مواقفه لكنه يرفض التحالف مع أي حركة يسارية داخل أو خارج الحزب تسعى للثورة أو الصدام، وساعد ذلك موائمات مبارك الذكية بالبداية، زي حرصه على بعض اجراءات الدعم والرعاية الاجتماعية، والسماح لليسار بهامش عمل بوزارة الثقافة أو أعمال الكتابة والنشر، وبالتالي تدريجيا تراجعت العضوية الشعبية بالتجمع وتراجعت قيادته للمعارضة.

– ومع تصاعد الحركة الاسلامية، وتوجهات بعض فصائلها زي الجماعة الإسلامية والجهاد للعنف والإرهاب، وتوازى ذلك مع تراجع دور خالد محيي الدين في الحزب لصالح رفعت السعيد، ابتعد حزب التجمع عن مواجهة السلطة نهائياً إلى تركيز مشروعه ضد الإسلاميين، وفي الاطار ده كان التجمع الحزب الوحيد اللي نزل انتخابات برلمان 1990 رغم مقاطعة كل احزاب المعارضة اعتراضا على تغيير النظام الانتخابي للنظام الفردي! وهكذا تراجع دوره أكتر وأكتر.
– سنة 2002 أعلن خالد محيي الدين عن اعتزاله العمل الحزبي وترك قيادة الحزب لجيل آخر، وفي ٢٠٠٥ كان آخر ظهور سياسي له ترشح للبرلمان وخسر امام مرشح الاخوان، ومن وقتها فضل الابتعاد تماما حتى الوفاه.
*****

– مات خالد محيي الدين ولسه بعد أكتر من 60 سنة بنحاول الإجابة على نفس السؤال وبلدنا في نفس الصراع: الديمقراطية ولا السلطوية؟
– هل الديمقراطية الآن، ولا نؤجلها بلا نهاية لأن اللحظة لا تسمح؟
– حكم الشعب ولا حكم الفرد، ودايماً بيكون عندنا ساعتها “قائد الضرورة” التاريخي؟
– ولما تم من وقت مبكر حسم مسار التاريخ الحديث لمصر لصالح (تأجيل الديمقراطية) إيه كان نتيجة ده؟ هل كان ممكن تجنب هزيمة 67 أو غيرها من الخسائر؟ هل لو كان التاريخ تغير في 1954 أو 1977 أو بغيرها من الفرص كنا هنبقى فين دلوقتي؟
– وهل لما تيجي لحظة الاختيار بالانحياز لمعسكر السلطة المطلقة بما تحمله من مزايا ومكاسب، أو معسكر الديمقراطية والدستور والحريات بما يحمله من أثمان وتضحيات، هيكون الاختيار إيه؟
– ولما المعسكر الديمقراطي نفسه يتراجع عن الديمقراطية لصالح ما يراه أولوية أخرى زي ما حصل مع حزب التجمع بيكون مصيره إيه؟
هي ده ببساطة المعادلة والدرس الرئيسي من قصة ظابط سلاح الفرسان، الصاغ خالد محيي الدين، فارس الديمقراطية.




مشاركة:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *