– “حملة لتنظيف الشوارع والميادين الرئيسية من الباعة المتجولين .” الخبر ده ممكن نكون بنشوفه بشكل يومي حول قيام شرطة المرافق في محافظات مختلفة بإزالة “تعديات من الباعة الجائلين “.
الداخلية دائما بتعمل الحملات دي والغرض منها بيكون بحسب وصف المسئولين “تنظيف” الشوارع ورفع الإشغالات، واللي كانت الحملات اللي بتتعمل على الباعة الجائلين هي ترجمة شعارات “استعادة الدولة واستعادة هيبة الشرطة”.
– ويمكن أقرب مشهد حصل هو مشهد إخلاء العتبة والموسكي الأسبوع اللى فات، والمشاهد المتكررة المحزنة عن فقدان البياعين دول لمصادر رزقهم وأحياناً كمان بيتعرضو للحبس والقتل، والمشكلة الأكبر أنه عادة الباعة بيرجعوا تاني لنفس المناطق دي مرة تانية بعد الحملة الأمنية ما تخلص.
– دايما الحل الأمني هو الحل الأقرب للحكومة في التعامل مع أي مشكلة اجتماعية، وطبعا الحل الأمني حتى لو بقى ناجح على المستوي القريب فى رفع الاشغالات وتسهيل حركة المرور، إلا أنه على المدي الطويل بيثبت دائما فشله، وبيساهم فى تعميق مشكلة الأمن نفسها لما الباعة دول يفقدوا مصادر رزقهم فممكن يتجهوا للسرقة والجريمة وغيرها.
طيب إيه ممكن يكون الحل فى أزمة الباعة الجائلين في مصر ؟
– عشان نجاوب علي السؤال دا محتاجين نفهم الطبيعة الاقتصادية للباعة الجائلين فى مصر الأول، وثانيا محتاجين نشوف التجارب المشابهة للتعامل مع المشكلة دي، ثالثا هنطرح مجموعة من الحلول يمكن للمسئولين فى مصر الاستفادة منها فيما يتعلق بمشكلة الباعة الجائلين .
*****
إيه حجم المشكلة؟ إيه عددهم وآثارهم الاقتصادية؟
– بشكل عام مصر فيها أكثر من 5 مليون بائع متجول، 1.5 مليون منهم فى القاهرة الكبرى والبقية متوزعين علي المدن الرئيسية فى المحافظات الأخرى.
– 30 % منهم هم من النساء اللي يعولوا أسر، و15% منهم من الأطفال دون سن العمل وبرضو بيعولو أسر.
– الباعة دول بيساهموا بما يقرب من 80 مليار جنية سنويا فى الناتج المحلي .
– لو ركزنا على القاهرة لوحدها بس، نظرا لأنه معظم الحملات الأمنية على الباعة المتجولين بعد الثورة تركزت فى المنطقة ده واللي بتشمل أسواق شعبية كبيرة فى وسط البلد، شارع بورسعيد، العتبة، الموسكي، شارع رمسيس، هنلاقي أن الثلاث مناطق دول فيهم أكثر من 600 الف بائع متجول .
*****
طيب إيه السبب فى وجود الكم الهائل دا من الباعة؟
– في فترات الستينات والسبعينات الهجرة الكثيفة من الريف والصعيد للقاهرة هي الفترة اللي زاد النمط ده من البيع فيها، والمواطنين مع الوقت بيلجئوا للأسواق الشعبية والباعة الجائلين دول لأنهم بيبيعوا بضاعة أرخص في الثمن.
– وهنا ممكن نشير لتوصية أهم من دراسة للبنك الدولة عن البائعين الجائلين فى أفريقيا، الدراسة أوصت بأن على الحكومات ضخ إستثمارات أكثر فى تدريب الباعة المتجولين دول بدل الاتجاه لبناء أسواق أو مولات كبري على النمط الحديث .. أولا لأنه أرخص، ثانيا لأنه استثمار أكثر استدامة بيوصل للأغلبية وبيقلل من معدلات الفقر والبطالة .
– بشكل عام الأسواق الشعبية فى مصر لسة المصدر الأساسي للاستهلاك وخاصة فيما يتعلق بالطعام ( خضر، فاكهة، أطعمة جاهزة، لحوم إلخ ) ، طبعا مش كل الأسواق الشعبية هما باعة متجولين غير رسميين، في منهم كثير رسمي وبيحمل ترخيص وليه بطاقة ضريبية كمان.
– في عهد نظام مبارك كان فيه تصالح ما مع ظاهرة الباعة المتجولين ، كان فساد المحليات بما فيها شرطة المرافق وحتي أقسام الشرطة جزء كبير من التصالح دا، كان في علاقات فساد واضحة بين الدولة والبائعين دول . دا اللي خلي مثلا بعد الثورة وأثناء إخلاء ميدان رمسيس من الباعة الجائلين أحدهم يقول” إحنا دفعنا ثمن الحتة الأرض اللي بنقف عليها أضعاف مضاعفة لأمناء الشرطة ”
– بعد الثورة زاد عدد الباعة الجائلين وشهدت الأعوام التالية مناوشات كبيرة بين الشرطة من جهة والباعة من جهة، أو بين الباعة الجائلين وبعضهم البعض نتيجة الصراع على المساحات وخاصة فى منطقة وسط البلد .
*****
هل عندنا قانون بالفعل؟ هل جربنا حلول؟
– مصر عندها قانون من 1957 لتنظيم الباعة الجائلين والقانون هو مشكلة في حد ذاته، القانون لم يمس منذ أكثر من خمسين عام إلا فيما يتعلق بتغليظ الغرامات والعقوبات واللي بتشمل فى بعض المخالفات الحبس .
– أيضاً القانون بيرسخ لتعامل الحكومة مع الباعة علي أنهم كيانات يجب تحجيمها وليس العمل على تنمية مهاراتهم .
مثلا القانون بينص على تخصيص أماكن للباعة الجائلين دول لكن مش بيحدد معايير الاختيار ومن اللجنة المنوط بها هذا الاختيار، بيدي كل الصلاحيات للوزراء ورؤساء الأحياء فى تحديد الأماكن دي .. ده اللى بيخلي معظم الباعة يرفضوا الانتقال للأسواق الجديدة اللى بتحاول الحكومة تنقلهم فيها، مثلا سوق الترجمان ، واللي كان بحسب نقيب نقابة الباعة المستقلين مكان غير صالح إلا لرمي القمامة وليس البيع والشراء .
غياب التشاور مع البائعين فى إختيار الأماكن دي كان سبب مباشر لرفضهم الانتقال ليها وتفضيلهم وجودهم فى الاماكن الحالية ليهم .
*****
طب هل الباعة الجائلين رافضين فعلا لكل إجراءات الحكومة عشان تخليهم رسمية ؟
– الحقيقة لا، في بحث مسحي عملة إتحاد جميعات التنمية الاقتصادية سنة 2009 وشمل عينة من محافظات القاهرة والاسكندرية والمنيا وبورسعيد توصل لأنة 90 % من الباعة الجائلين عندهم إستعداد للترخيص ليهم وتحمل الأعباء المالية الناتجة عن ده، سواء دفع الرسوم أو الضرائب ويحصلوا مقابلها على الأمن لأنهم كده ولا ده بيتم ابتزازهم بدفع فلوس أخرى..
– أيضا معظم الباعة دول بيعملوا فى ظروف مناخية صعبة وبدون أي ضمانات إجتماعية أو تأمين من أي نوع فبالتالي فى حالة العجز أو المرض مش هيقدروا يعولوا الأسر
– كمان الغرف التجارية لا تعترف بيهم كتجار صغار، وتطالب بالقضاء عليهم من أجل تخفيض ساعات العمل فى المحلات التجارية الرسمية .
*****
التجربة الهندية
– الهند سادس أكبر اقتصاد فى العالم، واللي بيشهد فى السنوات الأخيرة نمو متزايد جدا وارتفاع معدلات الدخول بشكل كبير، و تعتبر الهند من أكبر النماذج لانتشار الباعة المتجولين على مستوى العالم، مدينة بومباي لوحدها فيها 2 مليون بائع متجول ، وبيوصل حجم تعاملاتهم المالية ل 60 مليار روبية سنويا . وزي مصر كانت الهند بتعاني من نفس المشاكل مع الباعة المتجولين سواء بسبب علاقات الفساد بينهم وبين السلطات المحلية أو بسبب إشغالهم للطرق والميادين العامة ،أو حتى لظهور أنماط من البلطجة وفرض الاتاوات بين الباعة دول .
– في 2004 أعلنت وزارة الشئون الحضرية فى الهند عن خطة سمتها ” الخطة الوطنية للباعة الجائلين ” . الخطة كانت بتستهدف تعزيز قدرة البائع الجائل على كسب لقمة العيش، وثانيا ضمان عدم ازدحام الأماكن العامة والميادين بالباعة . وفي إطار دا شكلوا لجنة فى عضويتها ممثلين من البلدية، والشرطة، إدارة المرور، والنقابات والجمعيات اللى بتمثل الباعة الجائلين .
كانت مهام اللجنة اللى سميت ” لجنة الييع فى الشارع ” وضع سياسات ومراقبة تنفيذها ،وكانت السياسات كالأتي
1- تحديد أماكن مؤقتة ودائمة للبيع . وحظر أماكن أخرى علي الباعة.
2- تحديد أوقات البيع بحيث تتوافق مع عدم ازدحام الشوارع وتعطيل حركة المرور.
3- تدريب الباعة الجائلين على النظافة الشخصية والإجراءات الصحية خاصة باعة الطعام .
4- تحديد أماكن التخلص من النفايات.
5- إجراء مسح دوري شامل للمدينة من قبل البلدية لإعطاء أرقام دقيقة حول عدد الباعة ونوعية نشاطهم.
6- تسجيل الباعة الجائلين وإعطائهم بطاقات شخصية وترخيصات بالأماكن التي يشغلونها
وغير دا كتير وبعد مرور 10 سنوات على بداية تطبيق السياسة دي ،حولت الهند الباعة الجائلين دول من عبئ اقتصادي واجتماعي إلي كيانات قانونية تقدم سلع وخدمات بأسعار منخفضة للفئات الأفقر فى المدن الهندية .
فى نماذج تانية غير الهند – ممكن نتكلم عنها في مناسبات جاية – زي جنوب أفريقيا، وأوغندا وتايلاند والبرازيل وغيرهم كتير المشترك بينهم انهم تخلصوا من الحل الأمني لأزمة الباعة الجائلين، وكان التركيز فى النماذج ده على استيعاب الباعة الجائلين بإعتبارهم طريقة لمحارية الفقر والبطالة مش التعامل معاهم أمنيا كأنهم بلطجية، وفي نفس الوقت حفظ حق الدولة والناس.
*****
طب ايه الحل ؟
طبعا المشكلة زي ما شرحنا ليها أبعاد كثيرة وممكن الاستفاضة فى شرح الحلول ليها، لكن في رأينا أنه الحل يبدأ في الوقت الحالي أو القريب بتعديل التشريعات والقوانين المنظمة للباعة الجائلين بالتشاور مع ممثلين حقيقيين للبائعين دول ومنظمات المجتمع المدني اللىي بتشتغل معاهم، وتفعيل دور المحليات والأحياء فى الرقابة عليهم، ومعايير الترخيص والاختيار، واعطائهم التراخيص اللازمة بمبالغ بسيطة في متناولهم، وتخصيص أماكن تراعي جوانب سيولة المرور بنفس قدر توافر الزبائن، وأيضاً تدريبهم والزامهم بمهارات النظافة العامة والشخصية وتقديم لسلع صحية وآمنة.
– وبالشكل ده هيتحولوا فعلاً لمواطنين بيساهموا في الاقتصاد الوطني بيشتغلوا بايديهم وبيقدموا سلع بأسعار رخيصة وخدمات مناسبة للطبقات الأفقر وبيكسروا الاحتكارات ويوسعوا دواير الشغل وحركة السوق ويساعدوا في تقنين ومعرفة حجم الاقتصاد غير الرسمي ويتحولوا مع الوقت لدافعي ضرايب ومقابل خدمات تدخل موازنة الدولة.