مفيش دولة في العالم تقدر تستغنى عن القضاء اللي بيكتسب هيبته وحصانته بفضل الثقة في تحقيقه للعدالة، لكن لما يوصل الفساد للقضاء ده بيتطلب مواجهة حاسمة زي اللي حصل مؤخراً في بيرو اللي فيها فضيحة فساد كبيرة بسببها استقال رئيس المحكمة العليا (زي المحكمة الدستورية عندنا) واستقال كل الأعضاء السبعة للمجلس الوطني للقضاء (زي المجلس الأعلى عندنا)، ورئيس المجلس قال “انسحابنا يحفظ كرامتنا”.
*****

إيه اللي حصل في بيرو؟

– بدأت القصة لما عرض برنامج تلفزيوني اسمه بانوراما تقرير استقصائي لموقع اسمه “بي إي إل ريبورتيروس”، كان التقرير ده فيه مكالمات مسجلة لقضاة بيساومو متهمين على مبالغ مالية مقابل عدم توقيع عقوبات عليهم، وبعضهم أصحاب مراكز متقدمة قضائياً، منهم واحد في المحكمة العليا وثلاثة أعضاء في مجلس القضاء الوطني.
– منهم قاضي اسمه هينوستروزا كان متسجله وهو بيتكلم مع شخص عن قضية اغتصاب طفلة عندها 11 سنة، وبيطلب من الشخص الاخر اقتراح مقابل مناسب لتخفيف الحكم او الافراج عنه، ولم يتبين مصير الحكم ده في النهاية لكن نفس القاضي برأ 3 أشخاص من نفس التهمة قبل نشر التسجيلات.

– فيه تسجيلات تانية لنفس القاضي كانت بتدل على تورط وزير العدل في القضية، وفي تسجيل تالت كشف انه القاضي قدم وظيفة مقابل تذاكر لحضور المونديال.

– فيه قاضي تاني اسمه والتر ريوس اتسربت ليه مكالمة بيطلب فيها مبلغ عشان يرقي قاضي لمنصب أعلى، وبيقول للي بيكلمه إن المبلغ هيرجع له لو ما خدش المنصب.
– ومن خلال التسجيلات، اتضح وجود شبكة فساد في الدواير القضائية بيتم من خلالهم تعيين قضاة وترقيتهم مش على أساس كفاءتهم، وبيتسألوا في الانترفيو اللي بيعملوه قبل المنصب عن حاجات مالهاش علاقة بعملهم في القضاء. مثلًا المرشحين لمنصب المدعي العام اتسألوا عن كيفية إعداد طبق بط!
*****

ايه ردود الفعل على الكلام ده؟
– الناس في بيرو تفاعلوا سريعًا مع الموضوع وحصلت مظاهرات شارك فيها أكثر آلاف المواطنين حوالين المحكمة العليا في العاصمة البيروفية “ليما” وهما شايلين صور فيران ولابسن لبس فيران كتعبير عن الفساد.
حاولت الشرطة وقف المظاهرات بالغاز المسيل والمياه لكن المظاهرات استمرت بقوة، واتعملت استطلاعات رأي بتقول انه اكتر من 80% من المواطنين في بيرو لايثقون في القضاء.

– رئيس بيرو “مارتن فيزكارا” اللي لسه واخد السلطة من 4 شهور بس -بعد استقالة الرئيس السابق على خلفية تهم بالفساد برضو- طلب من وزير العدل إنه يستقيل، واستقال مجلس القضاء الوطني ورئيس المحكمة العليا زي ما قلنا، وتم تعليق عمل 5 قضاة و3 مسؤولين قضائيين وإعلان حالة الطوارئ لمدة 3 أشهر في الأجهزة القضائية استعداد لمزيد من الاستقالات، وأعلن عن إنشاء مكتب لمكافحة الفساد، وفرض عقوبات على القضاة والمحامين الفاسدين.

– الرئيس كمان عين 6 فقهاء قانونيين واداهم مهلة لتقديم اقتراح إصلاح قانوني واسع، واجراءات لزيادة الشفافية في القرارات الصادرة عن المحاكم.
– الرئيس أعلن عن استفتاء على تعديلات دستورية قضائية وسياسية، ضمنها تحديد سقف زمني لولاية النواب وإعادة البرلمان لغرفتين ( كونجرس + شيوخ) عشان يكون في مزيد من الشفافية وتداول القرارات، وكمان منع التمويل الخاص للحملات الانتخابية لمكافحة الفساد السياسي.
– بعض المصادر بتؤكد انه هيتم نشر المزيد من المكالمات في الفترة القادمة، وانه التسجيلات كانت في الاصل أمر قضائي من أحد المحاكم للبحث عن شبكات تهريب المخدرات والجريمة المنظمة والمتعاونين معاهم من أجهزة الدولة المختلفة، فتم اكتشاف الفضيحة الكبيرة ده في الأوساط القضائية وليها امتداد مع بعض السياسيين.
*****

هل قضايا الفساد الكبيرة شيء نادر في بيرو؟
– الحقيقة انه 3 رؤساء من آخر 4 حكموا بيرو، خرجوا من الحكم بسبب فضايح فساد، اتنين منهم في السجن حاليًا!
– الرئيس البرتو فوجيموري وده وصل للحكم سنة 1990 وبسرعة غير مدة الحكم في الدستور وعمل تجاوزات كبيرة في قتل المعارضين نتيجة حرب بينه وبين الشيوعيين، لكنه خرج من الحك بعد تزوير انتخابات سنة 2000 وضبط تسجيلات لرئيس مخابراته وهو بيحاول يرشي احد نواب المعارضة عشان يدخل في تشكيل الحكومة وتنهي الاحتجاجات ضد تزوير الانتخابات، تم بعد كده ادانته واتحكم عليه سنة 2003 بالسجن 25 سنة وخرج مؤخراً بعفو صحي.
– الرئيس أويانتا أومالا: حكم من سنة 2006 لـ2016. بعد ما ساب الحكم السلطات أمرت بسجنه بشكل مؤقت لمدة سنة ونص هو ومراته اللي كانت مستشارة ليه، وده بسبب غسيل أموال واختلاس منح جت للدولة من فنزويلا عشان تتصرف على الحملة الانتخابية للرئيس.
– بيدرو بابلو كوتشينسكي: خرج من الحكم في شهر مارس اللي فات بعد فضيحة شركة الانشاءات والمقاولات أوديبرشت اللي خد منها رشاوي تقدر ب 5 مليون دولار مقابل الموافقة على إسناد أعمال إنشائية ليهم، واستقال قبل يوم واحد من جلسة التصويت على عزله في الكونجرس البيروفي.
– بقدر ما ده معناه مدى انتشار الفساد في الطبقة الحاكمة في بيرو، ده كمان معناه ان عندهم آليات واضحة لتداول السلطة ولمكافحة الفساد لدرجة إن رؤساء الجمهورية ورا بعض يتعزلوا ويتحاكمو، وان من أعلى منصب محدش محصن لو اتكشف عبر آليات تتضمن الصحافة الحرة، والانتخابات النزيهة، والبرلمان هناك بيقوم بالدور الرقابي بشكل كبير.
*****

– عندنا في مصر بيتم القبض على مسؤولين بتهم فساد، وده شيء ايجابي جدا بالتأكيد نحييه ونرحب بيه، لكن في المقابل مفيش سياسة عامة لإجراءات اوسع لمنع الفساد من الجذور، ولضمان ان كل الفاسدين بيتحاسبو مش بعضهم عند مستوى معين فوق الحساب أو على الأقل فوق نشر الوقائع .. واحنا شفنا قضايا أثارها جهاز رقابي زي المركزي للمحاسبات ضد مسؤولين في “جهات سيادية” زي تحديدا الاستيلاء على أراضي الحزام الأخضر زي ما شرحناها سابقا ومتمش التحقيق فيها اطلاقا، وتم حبس صاحب التقرير المستشار هشام جنينة.

– السلطة القضائية في مصر تحديداً فيه شكوك حوالين عملها وانضباطها القانوني والسياسي، مثلا شفنا أوضح مثال المستشار ناجي شحاتة المشهور بانه قاضي الاعدامات وبيتفاخر بده، اتكلم في حوار سابق عن آرائه السياسية ضد متهمين هو بينظر قضاياهم أو حكم عليهم بالفعل، وكمان وجه انتقادات لمحكمة النقض أعلى محكمة في مصر لأنها قالت ان احكامه فيها “فساد في الاستدلال وقصور في التسبيب”، ومتمش إعادة المحاكمات دي أو أي محاسبة ليه، هوا او أي محاكم ونيابات بتتم على أسس سياسية وفيها تواطؤ واضح في الرقابة على تجاوزات الأمن في التعذيب أو تلفيق القضايا.

– مثلاً تعيينات النيابة اللي بتحصل كل سنة من أكتر القرارات اللي بتشهد واسطة ومحسوبية عالية، اللي عنده أب أو قريب قاضي أو مستشار ولو كان تقديره أو كفائته أقل من ناس تاني. بنشوف ده بشكل واضح لدرجة إن الدفعة اللي اتعينت آخر 2013 كان أكتر من ربعها ولاد وقرايب قضاة، وفي دفعة 2014 سنة تم تعيين 6 أشخاص، كل اتنين منهم أشقاء، والصحف نشرت وقائع من دي .. بل اصلا عندنا المستشار الزند قال بالنص “تعيين أبناء القضاة سيستمر ولن تستطيع قوة في الأرض إيقاف هذا الزحف المقدس”!!

– لحد دلوقتي رواتب قضاة المحكمة الدستورية العليا هو سر حتى على المجلس الأعلى للقضاء ونادي القضاة، وفي قضية تم رفعها في 2015 حكمت فيها محكمة النقض بإلزام رئيس المحكمة بكشف رواتب أعضاء المحكمة، ولغت المحكمة الدستورية الحكم ده، يعني حتى ما بين القضاة نفسهم مفيش وسيلة ممكنة لمعرفة دخل القضاة وده خلل في الشفافية وتداول المعلومات المفروض ميبقاش موجود لو عاوزين نخلق مناخ يحارب الفساد فعلاً.

– مؤخراً في قضية كبيرة اتعملت لمجموعة من السياسيين بعد 25 يناير اسمها قضية إهانة القضاء، والسبب الرئيسي في القضية ده هو كلام مجموعة من البرلمانيين سنة 2012 عن تعديلات لقانون السلطة القضائية ومحاولة إصلاح القضاء بمنظومة جديدة يتم رقابتها، وبعد مناقشة القانون ده وبداية كتابته صدر قرار حل البرلمان من المحكمة الدستورية.

– طريق التغيير بياخد وقت طويل جدا، وزي ما فيه انتكاسات بتحصل، كمان بيحصل تقدم وخطوات مهمة بفضل إصرار الناس وجهودهم، وبفضل المشاركة الجماعية من الصحافة والبرلمان والمواطنين، النائب اللي فضح عرض الرشوة من رئيس استخبارات فوجيموري، والصحفيين اللي علمو التحقيق عن رشاوي القضاة ونشروه، والنواب اللي بيصروا على اتخاذ إجراءات دستورية وقانونية ضد المسؤولين الكبار.

– مصر ترتيبها 117 من أصل 180 في مؤشر مكافحة الفساد في الأمم المتحدة، ومصر واخدة الترتيب 157 من 180 في مؤشر حرية الصحافة، ومصر حاصل فيها مصادرة كبيرة لحرية الصحافة ولحركة الأحزاب ولتشكيل البرلمان ولو حصل خطوات حقيقية في إتاحة الحركة والحرية للجهات ده هيتم الكشف عن حجم الفساد الحقيقي اللي بيحيط بينا وهنبقى في بداية الطريق الصح لمحاربته.
*****

*****




مشاركة:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *