من أسبوعين أصدرت محكمة تشيلية أحكام بالسجن على 9 عسكريين سابقين اتُهموا انهم عذبوا وقتلوا الشاعر والمغني فيكتور جارا من 45 سنة!
ورغم ان معظم الأحكام رمزية ومش هتتنفذ لأن المتهمين أغلبهم مات أو هرب برة تشيلي، لكن أهمية الحكم انه بينتصر لقيم العدالة، وبيؤكد ان البلد قدرت تتجاوز ماضي الاستبداد لدرجة محاسبة المجرمين اللي قدروا يحموا نفسهم كل السنين دي.
قصة انقلاب تشيلي ورجوعها للديمقراطية قصة ملهمة جداَ لأي شعب بيسعى للتحول الديمقراطي، ومهم فهم تفاصيل مسارها الطويل وادراك أوجه التشابه والاختلاف.
*****
ايه قصة انقلاب تشيلي؟
– سنة 1970 فاز الرئيس سلفادور ألليندي، أول رئيس شيوعي منتخب ديمقراطيا في العالم، وده كان في ذروة المنافسة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي.
– سنة 1973 قام وزير الدفاع اوجستو بينوشيه بعمل انقلاب عسكري على الرئيس ألليندي، وكان انقلاب متخطط ومدعوم امريكياً بافتعال مجموعة أزمات اقتصادية في المواصلات والوقود قامت بسببها اضرابات كتيرة أهمها اضراب عمال النقل، ادت مبرر شكلي للقيام بالانقلاب، وكمان تم استغلال قرارات أخدها ألليندي زي تأميم مناجم نحاس وبنوك ومؤسسات تعليمية وصحية، وفرضه جمارك على السلع المستوردة.
– وزير الدفاع بينوشيه حاصر القصر الجمهوري وادى رئيس الجمهورية مهلة لاذاعة استقالته في الراديو، لكن الليندي رفض الاستسلام وقال خطاب حماسي وعاطفي، ولبس الوشاح الرئاسي، وحارب لحد ما اتقتل مع كل رجاله في القصر بعد هجوم جوي وبري من الجيش عليه.. الرواية الرسمية وقتها قالت انه انتحر بمسدسه، بينما أنصار ألليندي بيؤكدوا انه اتقتل أثناء القتال ومنتحرش.
– تعامل بينوشيه بوحشية كبيرة مع معارضي الانقلاب وأنصار الليندي، اجمالي ضحايا بينوشيه مش معروف بدقة لحد دلوقتي، لكن لجنة حقوقية مستقلة وثقت 3 آلاف حالة قتل، و27 ألف حالة تعذيب، وده شمل النساء، وتضمن الصعق الكهربي والاغتصاب والحرق، بالإضافة إلى 200 ألف حالة نفي خارج البلد (من اجمالي 11 مليون نسمة عدد السكان وقتها)، ده غير عدد ضخم غير معروف من حالات الاختفاء القسري، بعض التقديرات بتقدر ان العدد 700 مفقود محدش عرف أي شيء عنهم أو عن جثثهم، وسط روايات عن مقابر سرية جماعية أو ناس اترمت في المحيط.
لدرجة ان السجون معادتش مكفية فحول أماكن تملكها الدولة إلى سكون زي مزارع ومتاحف وأهمها كان استاد سانتياجو بسعة ٥٠٠٠ سجين، وده اللي اتسجن فيه فيكتور جارا اللي بنحكي عنه.
*****
إيه قصة فيكتور جارا ؟
– فيكتور جارا كان شاعر ومغني ومدرس مسرح، في 11 سبتمبر يوم الانقلاب كان رايح لعمله بشكل طبيعي في الجامعة فلما وصلته الأخبار فضل مكانه مع تلامذته يغني للحرية ويرفض الانقلاب اللى حصل .
– تاني يوم 12 سبتمبر تم القبض على فيكتور جارا وتم اعتقاله فى الاستاد اللي اتحول سلخانة تعذيب، لمدة 4 أيام تم تعذيبه بسبب موقفه، لدرجة أنهم كسروا صوابعه وطلبوا منه يعزف على الجيتار ويغني ليهم فغني نشيد الحرية اللى كان مشهور بيه أنصار الرئيس السابق سلفادور، ومن بعدها كان كل ما يعذبوه كانو المعتقلين بيغنوا ألحانه وأغانيه تضامناً معاه.
– في 16 سبتمبر قتله مجموعة من الظباط ب 44 طلقة ورمو جثته في أحد الطرق المهجورة بالقرب من سانتياغو العاصمة، واليوم ده كان مشهور عند التشيليين بسبب الالاف اللي تم قتلهم ورميهم في الشوارع.
– في 2009 نجحت ارملة فيكتور جارا في اعادة فتح التحقيق بقضيته، وتم استخراج الجثة لتشريحها، والآلاف حضروا اعادة دفنه، وفي 2016 أصدرت محكمة أمريكية حكم على ظابط تشيلي متقاعد هربان في فلوريدا بادانته بالتورط بقتل جارا، واتحكم عليه بدفع تعويض 28 مليون دولار.
– وأخيرا أول الشهر الحالي المحكمة على ال9 عسكريين بالسجن 5 – 15 سنة، بتهم التعذيب والقتل.
*****
تشيلي حصل فيها إيه؟ اتغيرت ازاي؟
– مهم ناخد بالنا ان نظام الحكم في تشيلي تاريخياً كان ديمقراطي باستثناء انقلاب سنة 1924، لكن لفترة طويلة من 1925 إلى 1973 كان بيتوالى الرؤساء المنتخبين، وده خلا البلد فيها من البداية قاعدة نقابية وحزبية قوية، وده ساعد على استعادة النشاط السياسي في البلد بعد أول 10 سنوات من التجمد نتيجة القمع المباشر اللي اتعرضله كل المعارضين.
– في السنوات الأولى بعد الانقلاب قام نظام بينوشيه بعمل إصلاحات اقتصادية كبيرة، كانت بتدعمها أمريكا وصندوق النقد بشكل مباشر في أكبر عملية تمويل من صندوق النقد، والاصلاحات كانت ناجحة وقدرت تقلل معدلات التضخم وتقلل عجز الموازنة، لكن بعدها ظهرت مشاكل زيادة البطالة وزيادة كبيرة في الفقر، بالذات في فئة عمال المناجم.
– لكن مع الوقت بدأت احزاب المعارضة ونقابات العمال تحاول ترجع نشاطها، وأهم حدث كان انهم بدءا من مايو 1983 بقو ينظموا يوم او اتنين شهرياً للاضراب في كل تشيلي تحت اسم “أيام الاحتجاج الوطني”. وفوجئ الناس ببعض، لدرجة ان بعضهم بيحكي انهم لو كان الواحد شاف صديق او جار مشارك في الاضراب يحضنه ويهمسله سراً إنه معاه! كانت فرحة بالخروج من الصمت والخوف كبيرة جداً. واستمرت سياسة الاضراب ده لمدة 3 سنين إلى 1986.
– كان من أهم التطورات اعلان تحالف “جبهة الوفاق الوطني” سنة 1985 من 11 حزب وحركة، كان قوامها الأساسي من الحزب الديمقراطي المسيحي اللي كان بيحكم قبل ألليندي، كان المتحدث باسمها جابرييل فالديز اللي كان وزير الخارجية من 1964 إلى 1970، ومن أهم رموزها باتريسيو إلوين اللي كان رئيس مجلس الشيوخ من سنة 1971 وده اللي بعدين تم انتخابه كأول رئيس بعد عودة الديمقراطية.
– النظام رجع يمارس العنف بشكل مباشر، وفي المقابل تصاعد عنف الحركات الشيوعية المتطرفة، والشرطة ردت بعنف أكبر فتم قتل عمال مضربين، وكانت الشرطة أحيانً تنزل أحياء فقيرة تعتقل كل الشباب عشوائياً وتحولهم للتحقيق والتعذيب في 12 ملعب على مستوى تشيلي.
– بدأت تحصل ضغوط دولية ضد النظام بعد تصعيد من المعارضة في التشهير بالجرائم دي، وكان فيه دور كبير للكنيسة الكاثوليكية في تشيلي ولبابا الفاتيكان، بالاضافة لأن أمريكا بقت شايفة بديل مختلف عن الخطر الشيوعي بالنسبالها، فغيرت سياسة دعم بينوشيه.
– من 1986 المعارضة أوقفت الاضربات وقررت تركز مع الاستفتاء على الفترة الثالثة لبينوشيه اللي معاده 1988، وتحت الضغوط الخارجية والداخلية وافق بينوشيه ان الاستفتاء يتم باشراف قضائي ودولي وبنزاهة، وكان متأكد انه هيفوز برضه.
– هنا المعارضة عملت مجهود دعائي ذكي، بدل التركيز على القتل والتعذيب والمآسي ركزوا على المستقبل والأمل تحت شعارات متفائلة زي “ستأتي البهجة” – ده موثق في فيلم اسمه No هتلاقوه في المصادر – وفعلاً كسبوا الاستفتاء بنسبة ٥٥،٩٪ .
– لكن بينوشيه حاول يشكك في النتيجة، وبدأت عملية تفاوض طويلة، انتهت بحل وسط. بينوشيه قبل التنحي مقابل ان تغيير الدستور يشمل مادة عينته عضو في مجلس الشيوخ مدى الحياة بما يعني حصانة قضائية ليه، وكمان إبقاء منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة، لكن بالمقابل دخلت تغييرات ايجابية جداً لصالح التعددية الحزبية والديمقراطية وتقييد حالة الطواريء اللي استمرت طيلة رئاسة بينوشيه، وتم الاستفتاء في ١٩٨٩ ووافق التشيليون بنسبة ٩١٪ .
*****
حصل ايه بعد تنحي بينوشيه؟
– تم انتخاب باتريسيو الوين اللي اتكلمنا عنه كرئيس جديد، وأول خطوة عملها هي لجنة الحقيقة و المصالحة (لجنة ريتج) اللى اتكونت من 8 محققين، 3 منهم كانوا فى حكومة بينوشيه و2 كانو منفيين برة البلد، ووزيرة التعليم، ومحامي حقوقي مستقل.
– اللجنة أصدرت تقريرها فى 1991، ورصدت فيه 2279 حالة إغتيال سياسي على يد النظام و٩٥٧ حالة اختفاء قسري، وفي المقابل ١٦٤ من رجال النظام اتقتلوا على يد عناصر المعارضة المسلحة.
ترتب على التقرير محاكمة ٧٦ من أفراد الجيش والشرطة المتورطين في التعذيب، صرف معاشات شهرية لأسر الضحايا، ولاحقاً تم فتح مقرات التعذيب للشعب وتحويلها لمتاحف لتخليد ذكرى الضحايا.
– سنة 2001 أعلن الرئيس التشيلي ريكاردو لاغوس ان الجيش اعترف باعدام 180 سجين سياسي، وامتدح شجاعة الجيش في الاعتراف بالماضي.
– سنة 2004 اتعملت لجنة جديدة والمرادي وصلها أكتر من 38 ألف حالة تعذيب لم يتم ادراجها في التقرير الأول.
– تشيلي حققت تقدم اقتصادي كبير، تراجعت نسب الفقر من 45% سنة 1990 إلى 14.4% في 2012 ، وفي 2009 تم دعوتها للانضمام لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
وإيه اللي حصل لبينوشيه؟
– فضل مكانه كقائد أعلى للقوات المسلحة لحد سنة 1998، وكان بيصدر بيانات ترفض نتائج لجان التحقيق وغيرها، بعدها تنحى لأسباب صحية وسافر لندن، لكن بريطانيا حطته تحت الاقامة الجبرية لمدة سنتين استجابة لمطالب من اسبانيا للتحقيق معاه فى تهم تخص تعذيب مواطنين أسبان من أصل تشيلي، وبعدين اتسمحله يرجع تشيلي.
بالوقت ده بدأ مسار قضائي وسياسي طويل حول محاسبة بينوشيه، وأخيراً في 2004 صدر حكم بتجريده من الحصانة، واتوجهتله تهم اختطاف وقتل 10 أشخاص، وتم وضعه في الإقامة الجبرية.
– ويشاء القدر انه بينوشيه يموت في 2006 في عهد الرئيسة ميشيل باشيت، وهيا نفسها واحدة من اللي اتسجنوا واتعذبوا في عهده، وكمان أبوها كان عميد في القوات الجوية من مؤيدي ألليندي، ومات بسبب التعذيب، وعيلتها هربت من البلد ورجعت بعد تنحيه، ولما اتوفى في فترتها الرئاسية رفضت المشي في جنازته أو نعيه، وهيا دي الرئيسة اللي تم تداول فيديو مشهور ليها مؤخرا والشعب بيودعها بالدموع بعد نهاية فترتها الرئاسية.
*****
في النهاية فيكتور جارا واللي زيه حتى لو ماتوا فهما لسه أحياء في ذاكرة شعوبهم والتاريخ هيفضل ينصفهم ويذكر تضحياتهم، والقتلة والمجرمين مهما كان شكل مواكبهم وسلطتهم هييجي وقت وميكونش ذكرهم الا مصحوب بالكراهية والذكريات الاليمة اللي هتفضل تطاردهم مهما عملوا.
*****