مساحة الأرض الزراعية محدودة، وبتنقص باستمرار .. المياة محدودة، وحصتنا في النيل ٥٥.٥ مليار متر ثابتة من أيام ما كان عددنا ٢٠ مليون، ووصلنا خط الفقر المائي، ده غير موضوع سد النهضة. المعطيات دي غير تقليدية، ومحتاجة حلول غير تقليدية .. هل ممكن نزرع على نفس المساحة، ونستهلك مياه أقل، وننتج أكتر؟
الحقيقة إن ده مش خيال، ده بيحصل بالفعل من عشرات السنين، عبر “تحسين السلالات” بالتهجين، أو بالتقنية الأكثر تطوراً “الهندسة الوراثية”.
*****
صورة البوست للعالم المصري الدكتور سعيد سليمان، رئيس قسم الوراثة بكلية الزراعة جامعة الزقازيق، وهوا وسط الفلاحين اللي بيزرعوا محصول الأرز اللي أمضى ٣٠ سنة من حياته بيدرسه.
الدكتور سعيد احتفل من أسبوعين بنجاح التجربة الأولى لزراعة أرز من نوع “عرابي ٣”، مقاوم للجفاف، تم تحميله على زراعات المانجو، بمعنى ان القمح زي المانجو بنفس الأرض يتروي مرة كل ١٥ يوم، وده بيخفض استهلاك الأرز من ٧٠٠٠ متر مياه إلى ٣٥٠٠ متر مياه .. النصف بالظبط، وده عظيم جداً لأن الأرز أكثر محصول مستهلك للمياه في مصر.
وفي نفس الوقت النوع ده يعطي انتاجية ٤ – ٥ طن للفدان، بزيادة طن في الفدان عن النوع العادي.
وده بالاضافة لبنود التوفير غير المباشر، زي توفير السولار اللازم لعمل مضخات المياه، وبالتالي توفير غير مباشر في الدولار .. وزي إنه القش بتاعه علف حيوانات أنسب لأنه أعلى ٢٠% بروتين.
مصر في ٢٠١٥ زرعت أكتر من مليون فدان أرز .. تخيلوا لو كلهم مزروعين بالنوع الجديد الأرقام تبقى إزاي.
*****
الأكيد إننا مش بنحكي عن أفكار ونظريات، بل عن تجارب حقيقة تماماً على الأرض بقالها سنين.
– في التجربة الأخيرة حضر حصاد الفدادين الخمسة في قرية أحمد عبد المعطي غنيم، التابعة لإبطو بمركز دسوق في كفر الشيخ، شهود كتير ، بنتكلم عن صاحب الأرض نفسه، بالإضافة إلى عبدالفتاح شواره، نقيب فلاحين الغربية، والسيد بسيوني، نقيب فلاحين الشرقية، ومحمود سليم، نقيب فلاحين دسوق.
– القصة بدأت مع أبحاث الدكتور من حوالي ٣٠ سنة، بتمويل أمريكي وقتها، وبعد تفاصيل كتير، وانقطاع للتمويل وأسباب تعطيل متعددة، وصلنا لمرحلة التجارب اللي استغرقت ٦ سنوات في الصوب داخل الكلية، وبعدها مرحلة التجارب الكبيرة من عام ٢٠٠٨، وتم تطوير أصناف عرابي ١، ٢، ٣ ،٤ (يسميها على اسم الزعيم احمد عرابي ابن محافظته الشرقية).
– سنة ٢٠١٣ كان عندنا مئات الفلاحين زرعوا ١٠ آلاف فدان بمحافظات الدقهلية والشرقية والمنوفية وكفر الشيخ بأرز عرابي ٢، بالإضافة لتجربة على ١٢٠ فدان أراضي رملية في توشكا، وتجربة أخرى على أراضي رملية بالصالحية الجديدة بالاسماعيلية، ودي سابقة إن أرز يتزرع بأرض رملية مش طينية.
******
فين الحكومة من الكلام ده؟
– سنة ٢٠١٠ بعهد مبارك الدكتور سعيد سليمان سلم نتائج أبحاثه ل د.مجدي راضي متحدث مجلس الوزراء ووعده خيرا وبعدين لم يحدث شيء، ولا حد كلمه أصلاً.
– بقرار وزاري رقم ٢٢٥١ لسنة ٢٠١١ تم الاعتراف بالحماية لصنف عرابي ٢ وذلك أثناء تولي المهندس محمد رضا اسماعيل لوزارة الزراعة.
– بقرار وزاري رقم ١٨٧٥ لسنة ٢٠١٢ حصل الدكتور سعيد على الحماية للاصناف عرابي ١ ، عرابي ٣، عرابي ٤ أثناء تولي الدكتور صلاح عبد المؤمن للوزارة.
بعدها الاجراءات الرسمية توقفت تماماً، الوزارة لا ترد..
– الدكتور بيقول إن السبب غير الاهمال العام إن هناك خلاف مع لجنة الأصناف بوزارة الزراعة، يرجع للمنافسة التاريخية بين كليات الزراعة بالجامعات وبين مركز البحوث الزراعية، وإنهم شفوياً قالوا انهم مش عايزين يطلعوا كلية زراعة أنتجت أفضل منهم .. في الأول كانوا لا يردون عليه، مؤخراً بقوا بيقولو ان الرز بيصاب بمرض “اللفحة” وهو ما ينكره، والفلاحين اللي زرعوا معاه يشهدوا بعكس ذلك.
إحنا سألنا متخصصين أكدولنا صحة موقف د.سعيد، لكن مع كده مش هنقول إننا حاسمين بشكل قاطع، هنقول بس إنه الأكيد إنه رسمياً حتى الآن مفيش رد مكتوب واضح، وزارة الزراعة مقالتش ده كويس وهنعممه أو وحش ونحذر من زراعته عشان كدا. صمت!
والأكيد إن الموضوع مهم جداً جداً، حرفياً “أمن قومي”.
الأكيد إنه يستحق إنه يكون أولوية قصوى، والجهات العلمية المحايدة متاحة في مصر، وعندنا وسائل التجربة العلمية بالحقول التجريبية المنضبطة، وفحص كل العناصر التقنية زي “نسبة التصافي” والتعرض للأمراض، كلها معروفة ومتاحة.
لكن اللي بيحصل دلوقتي هو تأخير سنين، بينما كل يوم واحد تأخير بندفع تمنه غالي جدا!
*****
قصة دكتور سعيد مجرد نموذج.
بشكل عام مصر بدأت فكرة “التوسع الرأسي” بوقت مبكر جداً، من الستينات والسبعينات اشتغلنا عليه في محاصيل كتير زي الأرز والقمح والقطن كمان ..
مثلاً تعميم صنف القمح جيزة ١٥٥ وصل بانتاج المحصول سنة ١٩٧١ إلى ٨.٥ أردب للفدان، بعدما كان في الخمسينات لا يزيد عن ٤.٨ للفدان.
وحصل تطور تاني في الثمانينات بسلسلة أصناف جيزة وجميزة وسخا.
لكن للأسف المسار بطيء، وحتى النجاحات المحترمة اللي بتحصل مش بيتم توسيعها وتعميمها بالإمكانات والسرعة والاهتمام الكافيين.
مثلاً شغل مركز البحوث لتطوير أنواع قمح أعلى انتاجية وتقاوم مرض الصدأ زي أصناف مصر ١، مصر ٢، جيزة ١٧١، أو شغل د.زينب الديب، وغيرهم كتير.
كل ده وبنتكلم عن الأصناف بس، مش عن وسائل الري اللي مصر للأسف متخلفة جداً فيها ولسه شغالين ري غمر وأحواض، بينما الري بالرش والتنقيط بيوفر كتير جداً جداً.
*****
التوسع الرأسي ده مجرد نموذج لعشرات مجالات البحث العلمي اللي ممكن تحل مشاكل معقدة بحلول غير تقليدية، وتترجم بأرباح أو توفير بمليارات.
بدل ما د.سعيد ياخد التمويل الأمريكي في البداية، ثم ينفق من جيبه، ويفضل يعافر ٣٠ سنة كاملة، كان مفروض الدولة تتبناه هوا وغيره من عشرات المحاولات والعلماء الحقيقيين، وكلهم يتنافسوا للوصول لأفضل الصيغ، وحتى لو نجح ١٠% بس منهم، ده هيغير شكل مصر.
مصر تنفق أقل من ١% على البحث العلمي، ترتيبها متراجع جداً بكل التقارير الدولية زي التنافسية العالمية أو الأمم المتحدة، بالمقارنة مثلاً بإسرائيل المتقدمة جداً، بنسبة انفاق تتجاوز ٤.٧%.
البحث العلمي “مشروع قومي” عملي، مش رفاهية ولا نقاش نظري.
بنحلم نشوف بلادنا شعبياً ورسمياً عارفة أهمية وأولوية البحث العلمي، وبنحلم نشوف انجازات علماء مصر بتتحول لتطبيقات عملية تحل مشاكلنا كلها.