– امبارح تم تشييع جنازة الرئيس الأسبق حسني مبارك ودفنه بعد إقامة مراسم جنازة عسكرية كاملة ليه بحضور الرئيس السيسي وكل قيادات السلطة الحالية وقيادات نظام مبارك التاريخية، الجنازة كانت على الهواء ونقلها التلفزيون المصري وحضرها بعض المواطنين، وشملت اطلاق المدفعية ٢١ طلقة واستعراض أوسمة مبارك كاملة!
– في البوست ده مش هنقدر نتكلم عن تاريخ مبارك السياسي اللي أدى لثورة يناير، وده ممكن نخصص لنقاشه بوست تاني، لكن هنتكلم عن نقطة محددة جداً وهي إزاي يتعمل جنازة عسكرية ليه رغم إدانته بحكم نهائي في قضية الاختلاس والفساد المشهورة بـ “القصور الرئاسية” ؟ وإيه معنى حضور الرئيس السيسي فيها بنفسه؟
إيه أحقية مبارك في جنازة عسكرية قانونياً ؟
– بشكل عام الجنازة العسكرية إجراء متبع في العالم لتكريم الشهداء أو أصحاب الإسهامات الكبيرة في بناء أوطانهم، وفي مصر ممكن ده يتم مع المدنيين اللي حصلوا على أوسمة من الطراز الرفيع زي “قلادة النيل” بعد التصديق من رئيس الجمهورية، الدكتور أحمد زويل مثلاً اتعملتله جنازة عسكرية رغم كونه مدني للسبب ده، وشفنا كتير جنازات عسكرية لشهداء الجيش والشرطة اللي بيسقطوا في مواجهة العمليات الإرهابية.
– فيما عدا الجرائم المخلة بالشرف من الممكن إقامة جنازة عسكرية لأي ضابط بالقوات المسلحة، وبحسب كل القانونيين الجنازة العسكرية بتشترط حسن السير والسلوك، وده بينتفي مع إدانة الرئيس مبارك بجريمة جنائية زي الاستيلاء على المال العام.
– كمان القانون 12 لسنة 1972 بينص على سحب النياشين والأوسمة من حاملها إذا ارتكب فعل مزري بالشرف أو غير متفق مع الإخلاص للوطن.
– الكلام ده اتنشر وقت الحكم على مبارك في كل الجرايد، لكن دلوقتي عشان الموقف اتغير وبقت السلطة عايزة تعملله جنازة عسكرية، ظهر قانونيين بيقولو ان ده قانوني حسب نص القانون 35 لسنة 1979 والخاص بتكريم قادة الأفرع الرئيسية بحرب أكتوبر، وهو بيضمنلهم معاشات خاصة واستثنائية واستدعاء دائم للقوات المسلحة مدى الحياة، لكن الحقيقة ان القانون ده منصش صراحة على الجنازة العسكرية، ولا بيلغي النص السابق، وبالتالي الاعتماد عليه في التبرير القانوني هو خطأ جسيم.
إيه هي قضية القصور الرئاسية اللي تمت إدانة مبارك وأولاده فيها؟
– بعد الثورة سويسرا أعلنت تجميد ٧٠٠ مليون فرنك يملكها رجال مبارك، وبعدها نشرت جريدة سويسرية ان منهم ٣٠٠ مليون يملكها جمال وعلاء مبارك تحديدا ودي لسه مجمدة لحد النهاردة، لكن مرجعتش مصر بسبب عدم القدرة القانونية من الجانب المصري على اثبات مصدرها.
– مبارك وأسرته تم اتهامهم في العديد من قضايا الفساد، زي رشاوى فيلات حسين سالم، واستيلاء سوزان مبارك على قصر العروبة، وفساد هدايا الأهرام، وغيرها كتير، لكن خرجوا منها كلها بأسباب مختلفة منها نقص الأدلة أو دفعوا فلوس وتصالحوا، إلا قضية واحدة الخاصة بفساد القصور لإن أوراقها بالصدفة كانت محفوظة بالكامل!
– الصحفي الاستقصائي حسام بهجت
Hossam Bahgat نشر تحقيق مهم على موقع مدى مصر من خلال الأوراق الكاملة للقضية.
– القضية اتكشفت بتعاون اللواء عمرو خضر، وهو ضابط مهندس عمل في سكرتارية رئاسة الجمهورية من سنة 2001، وكانت مهمته المكلف بيها من سكرتير الرئيس اللواء جمال عبدالعزيز هي شراء أي طلبات للرئيس وأسرته على حساب الدولة عن طريق دفع قيمة فواتير الشراء بتزوير فواتير تحديث وصيانة شبكة الاتصالات المؤمّنة الخاصة برئاسة الجمهورية!
– ولما اعترض وقتها المقدم عمرو لأنه ظابط شريف تم تهديده بالحبس من اللواء جمال عبدالعزيز، وقاله الرئيس عارف الكلام ده، فقرر إنه عبر سنوات يصور كل فاتورة ومستند ويخبيهم في مكان أمين!
– لما اتفتحت القضية اللواء عمرو أخد النيابة لشقة كان بيحتفظ فيها بصناديق مليانة أوراق، تضمنت 1007 فاتورة أصلية بتوثق لسرقة 125 مليون جنيه!
– نماذج السرقات دي كانت تشمل كمان جنب القصور الرئاسية بنود لتشطيبات الفيلات الخاصة لمبارك وأولاده اللي اهداها ليهم حسين سالم في شرم الشيخ، ودي كمان كانت موضوع قضية رشوة.
– البنود زي تركيب “اضاءة” لعرفة فريدة بنت جمال مبارك بمبلغ ١٥٤ ألف جنيه، أو عمل مطبخ بنص مليون جنيه، او تكييف لحمام السباحة بمبلغ مليون و٢٧١ ألف جنيه!
– ولولا وجود فواتير أصلية تثبت التزوير كان ممكن القضية دي كمان مبارك وأولاده ياخدوا فيها تصالح، لكن دي كانت الثغرة اللي ورطهم فيها اللواء عمرو خضر اللي شهد في القضية.
– في مايو ٢٠١٤ صدر الحكم في القضية على الرئيس الأسبق مبارك وأولاده بالحبس لمدة ٣ سنوات، لإدانتهم بالاستيلاء على نحو ١٢٥ مليون جنيه، وتم تأكيد الحكم نهائياً وباتاً في ٢٠١٦.
– وده معناه إنه في الصحيفة الجنائية للأب وأبناؤه حكم قضائي نهائي في جريمة مخلة بالشرف، تمنع أي حد منهم من الترشح لأي منصب رسمي مدى الحياة إلا باستثناء لو حصل على قرار رد اعتبار بناء على اجراءات قانونية بعد سنوات، وتمنع الرئيس السابق “قانوناً” من الجنازة العسكرية.
– جنب اللواء عمرو خضر لازم نعرف اسم أهم أبطال القضية، وهوا ظابط الرقابة الإدارية المحترم اللي عملها المقدم معتصم فتحي، واللي قدم بعد الثورة مجموعة من البلاغات منها بلاغ موجه ضد اللواء محمد فريد التهامي رئيس هيئة الإدارة الرقابية بالتستر على فساد مبارك واخفاء الأدلة . كان المقدم معتصم قدم جهد في الكشف عن قضايا فساد قبل الثورة منها قضايا ضد وزير الإسكان السابق محمد إبراهيم سليمان، لكنها كانت بتتوقف عند اللواء تهامي، واضطر للاستقالة قبل الثورة بشهر.
– في ٢٠١٢ جدد المقدم معتصم بلاغاته، وظهر في الاعلام يتكلم عن ١٤ قضية دفنها اللواء تهامي، وبناء على جدية المستندات اللي قدمها للنيابة أقال الرئيس السابق محمد مرسي اللواء التهامي من الرقابة الإدارية، وبعدها بحكم قضائي عاد المقدم معتصم لعمله ونجح يكشف قضية القصور الرئاسية.
– ومن باب العلم بالشيء نعرفكو بمصير الأسماء الباقية اللي كانت متورطة. اللواء جمال عبدالعزيز واللي ثروته لوحدها تخطت ال 7 مليار جنيه، كان حر طليق بعد ثورة يناير لمدة 10 شهور تمكن فيهم من فرم كل المستندات، عدا قضية القصور الرئاسية بسبب تصرف اللواء عمرو خضر، واتوفى اللواء جمال بعد حبسه بشهور داخل السجن.
– اسم تاني اتذكر بالقضية هوا المهندس إبراهيم محلب رئيس شركة المقاولين العرب وقتها، واللي كان بيشرف بنفسه مع وزير الإسكان محمد إبراهيم سليمان على تشطيبات فيلل آل مبارك، لكنه موقعش على أي ورقة بإيده واللي اتحاسب مكانه 2 مهندسين صغيرين في المقاولين العرب كانوا بيوقعوا على الورق بإسمهم، واتعين بعد كده إبراهيم محلب كأول رئيس وزراء في عهد الرئيس السيسي!
– أما اللواء محمد فريد التهامي واللي لم يتم أي تحقيق معاه أو محاسبته بعد اقالته في عهد الرئيس مرسي، تم تعيينه بعد ٣٠ يونيو كرئيس لجهاز “المخابرات العامة”، وبعدها كرمه الرئيس السيسي قبل إحالته للمعاش في ٢٠١٤.
– أما بطل قضية القصور المقدم “معتصم فتحي” فبعد رجوع اللواء التهامي لرئاسة المخابرات العامة تم إحالته لعمل إداري في محافظة البحيرة، ولاحقاً تم تجريده من رتبته وفصله من عمله وحرمانه النهائي من مستحقاته المالية ودخل في مسار قضائي طويل! ده غير انه قال انه تلقى تهديدات.
لو عندنا محاربة حقيقة للفساد كان المقدم معتصم فتحي لازم يتكرم على أعلى مستوى، ونشوفه في الإعلام نموذج مشرف، ويتولى مسؤولية تليق بيه.
طيب ليه تمت إقامة جنازة عسكرية؟ وليه بحضور الرئيس السيسي شخصياً ؟
– بعض الصحف العربية والعالمية قالت تفسيرات انه مكانش في ترتيب لإقامة جنازة عسكرية من الأساس، وان اسرة مبارك اتبلغت انها هتكون جنازة عائلية بس، لكنها تمت بناء على طلب من بعض القادة في الخليج، وإن مكانش التفسير ده نقدر نتأكد منه بنسبة 100% لأن قادة الخليج نفسهم محضروش الجنازة ولا فيه مصادر موثقة بقدر كافي.
– الأغلب إنه حصل ارتباك في البداية ومكانتش الرسالة الاعلامية متفق عليها، لحد ما وصل لصيغة بيتم ترديدها من إمبارح، وهي إنه مبارك قائد عسكري والدولة بتحترم تاريخها وبتسمو على أي خلافات خاصة وقت الموت .. التبرير ده كان جايز ينفع لو الرئيس عزا بشكل شخصي مش جنازة عسكرية بالمخالفة للقانون، ده غير اننا مشفناش موضوع السمو فوق الخلافات وقت الموت ده مع الرئيس السابق محمد مرسي اللي توفي بعد صراع مع المرض في حبسه الانفرادي وتمت الصلاة عليه ودفنه في ظلام الليل بدون جنازة وبالسماح لعدد محدود جداً من أسرته.
– وطبعاً السؤال عن مدى قانونية الجنازة واستحقاق مبارك للأوسمة والنياشين الخاصة بيه مش هيكون واقعي لأنه السلطة الحالية بتنتهك القانون والدستور بشكل متكرر، ولأن بالشكل ده إقامة الجنازة العسكرية وحضور الرئيس السيسي هي رسالة سياسية تماماً.
– الرسالة هيا التأكيد الكامل على وحدة صف “رجال الدولة”، وإنه مهما حدث من خلافات على السلطة بين العسكريين وبعضهم فدايماً في طريقة لإدارة الصراعات دي أو على الأقل تفضل ملهاش علاقة بموقفهم جميعا الرافض لثورة يناير، والرافض للديمقراطية وحكم الشعب المباشر.
– كل رموز نظام مبارك اللي تواجدوا في الجنازة تمت تبرئتهم من القضايا اللي عليهم أو قضوا مدة حبس صغيرة، أو عملوا تسويات مالية مقابل خروجهم، أيوة مش موجودين في السلطة دلوقتي، لكنهم بياخدوا وضع خاص كجزء تاريخي منها، ومصالحهم وأشخاصهم محمية.
******
– الرئيس السيسي في كتير من خطاباته اتكلم عن فساد مبارك ونظامه بالتلميح، مرة قال بالنص انه استلم “شبه دولة”، ومرة قال إن الفساد كان مالي البلد قبل ما ييجي وإن الثورة كان لازم تقوم بدري 15 سنة على الأقل، ودايماً بيشتكي إنه استلم تركة تقيلة والبلد محتاجة تريليون دولار لإصلاح البنية التحتية وبناء دولة حقيقية وإنه البلد كانت ضايعة. ومع ذلك بيقيم جنازة عسكرية للشخص المسؤول عن كل التخريب والفساد اللي بيشتكي منه!
– ده يخلينا نطلب من الرئيس السيسي إنه يبطل الشكوى من تركة مبارك بما إنه دلوقتي الكلام بيتغير وبيظهر انه استلم البلد من “رمز مشرف للعسكرية المصرية”، والثورة كانت مؤامرة وتخريب لوقف الانجازات الهايلة للراجل اللي حضر جنازته.
– بالتأكيد من حق كل انسان يبقى عنده موقفه العاطفي الفردي الخاص، وكمان منطقي ان بعض الناس تقارن أيام مبارك بالوضع الحالي وتشوف ايجابيات معينة افتقدتها، لكن ده مبيغيرش الوضع القانوني اللي تمت مخالفته، ولا بيغير ان أي رئيس هوا شخصية عامة وأحداث عهده ملك الناس، وعهد مبارك زي ما شهد ايجابيات حقيقية بيتم التركيز عليها دلوقتي بالتأكيد شهد أحداث سلبية ضخمة شفناها زي تزوير الانتخابات، وبيع القطاع العام، والتساهل مع موت المصريين في كوارث عبارة السلام أو في قطار الصعيد، أو النشر الواسع لجريمة التعذيب بالأقسام..الخ. ده نقاش طبيعي جدا لكن غير الطبيعي انه يتقال أصله مات و”له ما له وعليه ما عليه” ربنا يحاسبه. الحساب التاريخي حق الشعب وكل مواطن له رأيه لأن كل مواطن اتأثر.
– بعض الدول حصلت فيها أشكال من “المصالحة الوطنية” ممكن تتضمن العفو من العقاب لمتورطي أنظمة سابقة أو حروب اهلية، لكن دايما ده بيكون في اطار شامل لكل المواطنين وبيكون مش على حساب حفظ حق المواطنين في المعرفة، زي لجان “الحقيقة والمصالحة” بجنوب أفريقيا .. وشيء مؤسف اننا بنشوف صورة مختلفة تماما، ان المسؤول المدان بالفساد والمسؤول السياسي عن كل أحداث عهده يتكرم، بينما آلاف الشباب اللي خرجوا بالثورة بيعبروا بسلمية عن رأيهم في طريقة إدارة بلدهم وبيطالبوا بمحاربة الفساد، وبالانتخابات الحرة، والعدالة الاجتماعية، يبقى مصيرهم ما بين الموت شهدا في الثورة أو الاعتقال في السجون أو الهجرة من البلد.
– نتمنى في يوم نشوف بلدنا فيها عدالة حقيقية، ومصالحة مجتمعية حقيقية، وتحول ديمقراطي يغير من أسلوب الحكم بالكامل مش تغيير أشخاصه وشكله.